لا تُقطع الأمور عن سياقاتها لا زمانياً ولا مكانياً، فأي عبث بأي حجارة هنا، لا تعني إلا أمراً واحداً: النفي!
«أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، أي أكذوبة تستمر لولا روافعها من التحالف غير الأخلاقي من الدول الكبرى وسكوت متهم من الأمم، فكيف لبيوت لها سكانها، ولدوا فيها وتنفسوا، عاشوا وأحبوا، وصلوا، وغنوا؟ وأي جدل قانونيّ هذا؟ فما دخل المستوطن الغريب بالدار وصاحبه وساكنه!
ليست القضية قانونية بل سياسية، تقتضي الاشتباك سياسياً مع صناع قرار الغزو الإسرائيلي للبيوت الآمنة.
لم تضق البلاد، لكن العقل العنصري يضيق حتى بنفسه.
ترى لماذا يتم العبث هنا؟ الجواب أكثر من واضح؟ طيب لماذا يستمر ذلك؟ هل ثمة أمل ما لدى العنصريين بأن يختفي المقدسيون هنا؟
إنها محاولة بائسة يائسة، وبالطبع لا يمكن التعايش المصنوع تحت ظلال الحراب والبنادق أبدا!
أي عقلاني في الدنيا يقول، دعوا الناس، دعوا الشعوب لمصيرها، دعوا القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين، لكن ثمة أميّة مقصودة، بعدم الالتفات الا لأوهام الذات.
من أكثر الأحياء التصاقاً بالقدس، بل صار منها، وهو من الأحياء الجديدة التي تأسست خارج البلدة القديمة، وبعيداً عن مركز المدينة، تم ازدهار الحي حين تأسست فيه نهضة عمرانية وثقافية، خصوصاً في القسم العلويّ، حيث الذي يحوي الفنادق والمطاعم والمقاهي ومكاتب القنصليات ومؤسسات المجتمع الدّولي. كما يحوي مستشفى سان جورج الشهير للعيون.
كنا نكبر في العمر، وتظل القدس على حالها تنمو ببطء، لا كما ينبغي لأي مدينة، بسبب سياسة البناء، فظل حي الشيخ جراح منذ خمسة عقود ونيف كما هو، فلم يسمح الاحتلال للمقدسيين بالتوسع، بما يقتضي ارتفاع عدد السكان. ثم صرنا نفاجأ في الثمانينيات بالعلم الإسرائيلي، الذي كان يعني سيطرة مستوطنين على أحد البيوت، بوجود جنود وشرطة الاحتلال؛ فلم يتغير، سوى من مظاهر التهويد، وازدياد الأعلام الإسرائيلية، وزيارات المتدينين اليهود للمكان. وبالطبع، ما زال يتم تسييس الدين، فليست القضية عبادة روحية، بل استيطان غير شرعي. وبالطبع لم تهتم مصلحة الآثار الصهيونية إلا بمغارة صغيرة إيماناً منها بالارتباط بالعهد القديم، حيث تنفي تلك المصلحة وتتجاهل أي آثار أخرى. انه انتقاء للتاريخ، لنفينا.
- ترى هل من بوادر أمل..حسن نوايا إسرائيلية؟
- ..........................................
لقد ازدهر المكان من العصور القديمة قبل آلاف، قبل الأديان، منذ الكنعانيين واليبوسيين، لذلك استأنف العرب تجديدهم للمكان، ككل المدن والخرب والتلال الحضارية، في تاريخنا القريب قبل 9 قرون، كان المكان معسكراً للجنود، وفيه لربما مارس الطبيب حسام الدّين الجراح مهنته كمداو للجنود والأهالي الوافدين من القدس. ويمكن تأمل مظاهر العمران المملوكي من خلال المسجد الصغير الجميل هناك، بني ليلبي حاجة السكان بعددهم القليل، حيث تم تأسيس الحي حديثا عام 1865 وأصبح مقراً سكنياً لبعض العائلات المقدسية.
عراقة القدس وحداثتها التي بدأت في القرن التاسع عشر كحاضرة عربية تجذب الزوار، حمت المدينة من التهميش، من خلال جهود الشخصيات المقدسية الوطنية والثقافية.
أدهشنا واصف جوهرية في مذكراته بوصفه الدقيق لنمو الأحياء خارج السور، إنه يحفظها حياً حياً وبيتاً بيتاً، وهو يأتي على سنة الجراد التي رعت الحدائق والبساتين هنا عام 1914، حين حجب الجراد عين الشمس، وكيف استطاع أحد الأثرياء من المحافظة على حديقته حين وضع أجراسا تطرد الجراد.
يحتل الإنجليز القدس، فيفرضون الحكم العسكري لبضع سنوات، ليتحول شكليا إلى انتداب على فلسطين، وبرغم المخططات السيئة، تستطيع القدس البقاء، فتتمدد قليلا هنا، فيتم بناء الفلل والقصور، ومنها قصر الأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي الملقب بأديب العربية، وهو الذي تم اختياره عربيا ليلفي كلمة الأدباء العرب في منح لقب أمير الشعراء لأحمد شوقي.
تأمل تاريخ المدينة المعاصر، حيث ظهرت هنا الإذاعة الفلسطينية من الثلاثينيات، فاستغل المثقفون الفلسطينيون هذا المنبر وطنيا، رغم مضايقات ضباط الاحتلال البريطاني لهم، فصارت المدينة محطة مهمة لأهل الطرب والفن خصوصاً في مصر، مثل نجيب الريحاني وزكي مراد وابنته ليلى مراد، وأم كلثوم وعبد الوهاب. وهنا استقبل أديب العربية الأدباء والفنانين العرب والعربيات.
مستوى متقدم من الحضارة، لأرض بشعب وحي بأهله، فهنا خلال التنوير الثقافي للاجتماعي، نتعرف على الفكر المقدسي الحديث، كالحديث عن المساواة ومنح المرأة حقوقها، فهذا واصف جوهرية من مطربي القدس يغني أمام إحدى الشخصيات الثقافية الوافدة لزيارة القدس في بداية الأربعينات الا وهو د. منصور فهمي أغنية بداياتها:
أشقيقتي هبي لننصر قومنا سنعيد مجد العرب إن سرنا معاً
بعد نكبة العام 1948 وحتى نكسة حزيران العام 1967، ازدهرت مجموعة من الضواحي السكنية التي انتشرت حول المدينة، خصوصاً من جهة الشمال حيث الشارع الرئيس الذي يربط القدس برام الله. هناك، حيث كبر حي الشيخ جراح. في هذه الفترة، ازدهرت السياحة العربية والأجنبية بشكل خاص في الفنادق القريبة، بالاستفادة من فترة الهدوء التي دامت قرابة العقدين.
بعد الاحتلال عام 1967 أهملت ما يسمى بلدية الاحتلال الحيّ، وكان هناك نقص في البنى التحتية فالشوارع بدون أرصفة، والبيوت في حالة مزرية.
سيستمر البشر مدفوعين بقوة الحياة.
هنا يتجلى تقرير المصير.
أنظر تجاه قصر النشاشيبي، وفي رأسي أصوات موسيقى، أتذكر ما حمله واصف جوهرية أحد صعاليك القدس، من حنين معه، حيث ظل متذكراً لأيامه هناك في الفردوس المفقود .. متذكراً ما غناه من شعر احمد سامح الخالدي، التي غناها في الأيام الحلوة في الوطن:
واذا مررت بروضهم فاقرأه من مضنى سلاما
وانقل إلى ظبي هناك لواعجا أضحت ضراما
وأحمل إلي عبيره من بين أوراق الخزامى
وابعث إليَّ برشفة من ثغره تطفي الأواما
وامنن إلي بنفخة من روحه تحيي العظاما
حلو الحديث وكم سقانا من لواحظه مداما
ملك القلوب وما درى أني أذوب به غراما
أتحسس الجدران، أمسح دمعة، ألقي السلام على إسعاف وأمضي..تاركا الحي والقدس لمبادرة تعيد الأمل وتقرر المصير.
نمسح دمعة رثاء، لكن نبتسم للحياة، ستكون المبادرة دوما من الناس العاديين، انهم السيرورة والصيرورة، لسبب بسيط وجوهري: انهم أبناء الحياة.