خاض الفلسطينيون معركة المائة يوم التي بدأت بمرسوم إجراء الانتخابات وانتهت بمرسوم تأجيلها، مما جسد حقيقة لا يحبها الفلسطينيون؛ هي أن البلاد والعباد يحكمون بمراسيم وليس بمؤسسات أساسها صندوق الاقتراع.
حياة الفلسطينيين منذ انطلاق ثورتهم المعاصرة هي سلسلة معارك؛ العسكرية منها كانت تفضي إلى خسارات محققة في الأرواح والساحات، إلا إن تعويضها كان يجري بتقدم سياسي ثبت القضية الفلسطينية في المعادلات الإقليمية والدولية، وكان ذلك هو الإنجاز الأولي الأهم للثورة الفلسطينية.
غير أن معركة المائة يوم؛ التي كانت بمثابة صراع بين الخيارات، سجلت جملة خسائر من دون أي تعويض سياسي، وبالإمكان تحديدها فيما يلي:
أولاها: استيراد مسألة خلافية إضافية لم تقتصر على القوى السياسية؛ بل امتدت لتصيب النسيج الاجتماعي، ومن دون التدقيق في حجم ووزن كل طرف من أطراف الخلاف، فكلٌ يدعي أغلبية وربما إجماعاً، فإن الخلاصة بلورة صراع بين من يريد تجديد المؤسسات والشرعيات بالانتخاب، وبين من يتشبث بالوضع الراهن رغم التدهور المتسارع وانعدام الإنجاز في شتى المجالات.
وثانيتها: تعميق أزمة الثقة بين السلطة الفلسطينية الرسمية وبين ظهيرها الدولي الأهم وهو الاتحاد الأوروبي، الذي شجع الرئيس عباس على إصدار المراسيم، إلا إنه لم يستطع الحصول على موافقة إسرائيلية بتسهيل إجرائها خصوصاً في المكان الأكثر إشكالية «القدس».
كان الأوروبيون، ولا يزالون، يعتقدون أن هنالك بدائل لم تقدم عليها السلطة لتأمين الانتخابات في كل مناطقها.
وثالثتها؛ وهذه تصنَّف «الأخطر»، التسليم بواقع أن سلطة الاحتلال هي صاحبة المنح والمنع في شأن فلسطيني. صحيح أنه لا يمكن تفادي التأثير الإسرائيلي في كل الشؤون الفلسطينية، إلا إنه في مجال الصراع توجد مساحات يمكن استخدامها لمصلحة التوجهات الفلسطينية الأساسية؛ بما في ذلك تحويل معركة الانتخابات من حالة انتظار لتغيير الموقف الإسرائيلي الميؤوس منه، إلى حالة صراع بين صندوق الاقتراع الفلسطيني وبندقية الاحتلال الإسرائيلي، ومعركة من هذا النوع تسجل مكاسب جوهرية لأصحاب الصندوق.
هذه خسائر معركة المائة يوم، وكلها فتحت باباً واسعاً لتصعيد الصراع المركب؛ الفلسطيني – الفلسطيني، والفلسطيني – الإسرائيلي.
بعد التأجيل وعدم الوضوح بشأن تحديد موعد جديد وقريب لإطلاق الانتخابات كما تطالب جميع القوائم باستثناء قائمة «فتح» الرسمية، وكما يطالب قطب التمويل الأساسي للسلطة «أوروبا»، فإن البدائل المعروضة من قبل المؤجلين هي التالي:
أولها: الدخول في حوار وطني شامل للاتفاق على برنامج موحد لما تسمى عادة «مواجهة التحديات!».
ثانيها: تشكيل حكومة بقيادة «فتح» و«حماس» مع من يرغب من الفصائل الصغيرة، وقد يصل الأمر إلى حد تقديم ترضيات للقوائم التي فقدت حظوظها في دخول المجلس التشريعي عبر صناديق الاقتراع.
ثالثها: مواصلة النشاط الدبلوماسي لتجنيد قوى ضغط دولية لحمل إسرائيل على السماح بإجراء الانتخابات في القدس وتسهيلها في المناطق الأخرى.
حكاية الحوار الشامل، وعلى ضوء التجارب التي عاشها الفلسطينيون، خصوصاً في معالجة مسألة الانقسام، تبدو مكررة وعديمة الجدوى ولا تصلح لأن تكون بديلاً للانتخابات.
وحكاية الحكومة التي يفترض أن تضم الفصيلين الكبيرين مع ملحقاتهما من القوى الأخرى، فكان يمكن أن تكون خطوة معقولة في حال أُجريت الانتخابات وجرى التعامل على أساس نتائجها من داخل البرلمان، أما إذا كانت بديلاً؛ فلن تكون إلا عملية اقتسام للانقسام بمحاصصة تكرس الأمر الواقع دون تقدم في أي اتجاه.
أما تكثيف العمل على الصعيد الدولي؛ فهذا وإن كان لازماً في كل الأحوال، فإنه غير مجدٍ أمام الاستنكاف الأميركي عن الضغط، وانعدام القدرة الأوروبية أساساً، وهنا لا بد من الإشارة إلى أمر مهم؛ هو أن إسرائيل لا تريد للفلسطينيين إلا البقاء في وضعهم الراهن، فهي ليست ضد الانتخابات في القدس الشرقية فقط؛ بل ضدها في كل مكان، ثم إن إسرائيل 2006 التي أذعنت للمطالبات الأوروبية والأميركية، وقبلت بصيغة التصويت المقدسي في مراكز البريد، غير إسرائيل 2021 التي تتصرف مع القدس والشأن الفلسطيني وفقاً لـ«الطابو» الذي منحه لها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب.
ثم إن الحكومة المقبلة في إسرائيل؛ سواء تشكلت بعد الانتخابات الرابعة أو الخامسة، فهي، وفق كل المؤشرات، لن تغير السياسة الرئيسية تجاه القدس، ولا تجاه التسوية مع الفلسطينيين؛ بل إنها ستواصل إهدار فرص التسوية لمصلحة مخططات السيطرة الكاملة على الوضع الفلسطيني حاضراً ومستقبلاً، ولها في ذلك ذرائع مقنعة؛ منها أن حكاية التسوية والمفاوضات واقتراح الحلول رفعت عن أجندة الاهتمامات الأميركية.
* نبيل عمرو – كاتب وسياسي فلسطيني.