"مترو غزة": الحكاية من أوّلها

حجم الخط

بقلم: عاموس هرئيل



بعد جهود حثيثة تأمل اسرائيل، التي وجدت أخيرا صورة انتصار يمكن حولها بناء مبرر لوقف اطلاق النار، في انهاء القتال في قطاع غزة. عملية ناجحة جدا للجيش الاسرائيلي تضررت فيها بصورة كبيرة شبكة الانفاق المتشعبة لحماس تحت الارض في قطاع غزة، يتم استغلالها الآن في جبهتين، امام الجمهور الاسرائيلي لاقناعه بأننا انتصرنا في المعركة وامام حماس من اجل الموافقة على اتفاق.
ولكن إلى حين تحقيق هذا الاتفاق فان التوتر ينزلق إلى ساحة اخرى مع احداث على الحدود مع لبنان وسورية و11 فلسطينيا قتلوا بنار الجيش الاسرائيلي في الضفة الغربية.
يواصل سلاح الجو هجماته في القطاع وعدد الفلسطينيين الذين قتلوا هناك ارتفع وزاد خطر تعقيد الامور في اعقاب اخطاء أو ازاء تطورات في الساحات الاخرى.
ركز الجيش الإسرائيلي منذ بداية القتال في غزة  جزءا كبيرا من نشاطاته على هجمات ضد الأنظمة تحت الارضية، شبكة انفاق بطول مئات الكيلومترات حفرتها حماس تحت الأرض ومنها تدير معظم نشاطاتها العملياتية.
كانت اقامة هذه الشبكة التي يسميها الجيش الاسرائيلي «مترو غزة» الدرس التي تعلمته حماس من عملية «الرصاص المصبوب» في 2009.
في تلك المعركة تكبدت حماس خسائر كبيرة نتيجة تفوق الجيش الاسرائيلي الجوي والاستخباري فوق الأرض. ومنذ ذلك الحين انتقلت اغلبية نشاطاتها الى نظام الانفاق، لا سيما في حالة الطوارئ.
بلور الجيش الاسرائيلي الذي لاحظ هذا التوجه خطة هدفها تحويل الانفاق الى مصيدة موت لنشطاء حماس في حالة اندلاع جولة قتال بقوة عالية. ويتبين أن الاستخبارات نجحت في السنوات الاخيرة في حل لغز حماس، وأن ترسم بصورة دقيقة ومنهجية نظام الانفاق والقيادات التي بنيت بتكلفة ضخمة.
تمت بلورة الفكرة العملياتية الاولى في 2016، وتم استكمالها بعد سنتين تقريبا. تحدثت الخطة الاصلية عن تدمير انفاق لعدد من كتائب حماس فوق مئات مقاتلي التنظيم الذين سيختبئون فيها اثناء القتال. الفكرة هي أنه بعد ضربة كهذه، اذا تم تنفيذها اثناء الحرب، حماس ستضطر الى وقف استمرار القتال.
في تشرين الثاني 2018، بعد فشل عملية الوحدة الخاصة في خان يونس التي قتل فيها المقدم م. اوصى وزير الدفاع في حينه افيغدور ليبرمان، المجلس الوزاري المصغر بتنفيذ الخطة رداً على اطلاق مئات الصواريخ من القطاع على النقب.
رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ورئيس الأركان في حينه غادي آيزنكوت، الذي تمت بلورة الخطة بتوجيه منه، عارض ذلك.
اعتقد آيزنكوت أن المهمة الملحة أكثر هي تدمير الانفاق الهجومية الستة التي حفرها حزب الله بصورة سرية تحت الحدود مع اسرائيل.
قدم ليبرمان استقالته بسبب الخلاف مع نتنياهو والعملية التي بادر اليها آيزنكوت على الحدود مع لبنان «درع الشمال»، انطلقت بعد بضعة أسابيع.
في شهر آب العام الماضي طلب وزير الدفاع بني غانتس من الجيش فحص أي مخططات يمكن أن تساعد في تحقيق حسم في الجنوب.
مرت الخطة بعدة صيغ وتحديثات وتم تغيير اسمها. عند بداية عملية «حارس الأسوار»، يوم الاثنين بدأ الاستعداد لتطبيقها خلال هذه العملية. وفي منتصف ليلة يوم الخميس تم تسلم توجيه لتنفيذها.
في الهجوم الجوي المكثف هدمت أجزاء كبيرة من شبكة الانفاق في شمال القطاع. وقد تم حرمان حماس من ذخر اساسي وهو أمنها في أن تستطيع العمل تحت الارض، هناك شعر قادتها بأنهم محصنون من ضربة اسرائيلية. هذه عملية تثير الانطباع للاستخبارات وسلاح الجو، تم تخطيطها بدقة على مدى سنوات.
في الصيغة النهائية، تعكس الخطة نضج افكار قادها وطورها رئيس الأركان افيف كوخافي، من اجل زيادة النجاعة وتسريع النشاطات الهجومية اثناء القتال. هذه تضاف إلى سلسلة ضربات تلقتها حماس والجهاد الإسلامي منذ يوم الاثنين.
أصيب في هجمات سلاح الجو عدد كبير من انظمة انتاج السلاح والابحاث والتطوير لهذه التنظيمات. ايضا عند انتهاء المعركة يبدو أنهم سيحتاجون إلى وقت كبير من اجل اعادة ملء المخازن.

احتفالات مبالغ فيها
من أجل ابراز الانجاز في تصريحات نتنياهو وما ينشره الجيش الإسرائيلي هناك أسباب جيدة.
بعد ايام على صليات الصواريخ الثقيلة الموجهة للجبهة الداخلية فان الجمهور متعطش لبشائر جيدة.
العملية نفسها هي عملية ناجحة وشرعية. دون بيع نجاح عسكري للرأي العام سيكون من الصعب اقناعه بأنه حان الوقت لوقف القتال بدلا من الدخول البري إلى قطاع غزة، وهي الخطوة التي يعارضها المستوى السياسي.
ولكن من الجدير الانتباه الى أن الجيش يرفض الالتزام بعدد المصابين الفلسطينيين في القصف. النية الأصلية كانت قتل مئات الأعضاء من حماس. من المثير للاهتمام أنه لم تحدث ضجة بسبب مئات النشطاء الذين تم فقدان الاتصال معهم، لا يوجد أي بيان لحماس عن مفقودين (مثلما اعتادت في قصف سابق اصغر في بداية الاسبوع)، ولا توجد أي جهود بحث كبيرة.
اعترفوا في جهاز الأمن أمس أن قرار المهاجمة في هذا الوقت كان مقرونا برهان معين، ولم يكن من الواضح كم عدد المسلحين الذين يوجدون في الانفاق. بكلمات اخرى، اسرائيل استخدمت الذخر الاستراتيجي – عملية سرية قاتلة أعدت طوال سنوات – في ظروف فقط حصلت منها كما يبدو على نتائج محدودة.
واذا تبين أن هذا كان كافيا لانهاء العملية فربما أن القرار سيعتبر مبررا. تقدير المصابين المحدث متواضع جدا، وهو بعيد جدا عن الشائعات التي انتشرت أول أمس في اسرائيل عن قتل جماعي في الانفاق. ونتنياهو الذي فكر في البداية بعقد مؤتمر صحافي احتفالي اكتفى باطلاق فيلم حذر.
ليس كل أبواقه تلقت أمر «توقف» في الزمن الصحيح. تغريدة لواحد منهم، وصف عبقرية كوخافي، تم مسحها بعد فترة قصيرة. ووسائل الاعلام استغرقت وقتا اطول لفهم الوضع.
صورة الانتصار الجزئي ترجمت أمس الى احتفالات مبالغ فيها بالانتصار. وفي الاستوديوهات وفي الشبكات الاجتماعية احتفلوا بحكمة الجيش الاسرائيلي الذي ضلل العدو وجبى منه ثمنا باهظا. ومن أجل أشغال النشوة تم تجنيد قصص واقعية عن عملية تضليل اسرائيلية، يبدو انها ضبطت حماس وهي غير مستعدة في الانفاق. عمليا، حماس خشيت منذ بضعة ايام من أن نظامها تحت الأرضي في خطر، وذلك ازاء الهجمات السابقة التي كشفت وأصيبت فيها مواقع سرية لها. والأخطر من ذلك هو الغطرسة التي سيطرت في نهاية الاسبوع على تغطية القتال. كل من جلس في غرفة مع دان حلوتس، رئيس الأركان الفخور للجيش الاسرائيلي في بداية حرب لبنان الثانية، لن ينسى محادثاته مع المراسلين في منتهى السبت في 14 تموز 2006. حلوتس عدد سلسلة انجازات سجلها الجيش وعلى رأسها ضربة شديدة لنظام الصواريخ متوسطة المدى لحزب الله. فقد أراد اقناعهم بأن الجيش رد بصورة مناسبة على اختطاف جنود الاحتياط قبل يومين من ذلك.
فجأة تم ادخال بطاقة له فيها البشرى على ضرب سفينة الصواريخ «حنيت» أمام شواطئ بيروت.
في الحرب المفاجآت لا تسجل فقط باتجاه واحد. ايضا هذه المرة طالما استمر القتال فربما تحدث أخطاء، أحداث مع عدد كبير من المصابين. كرر كبار قادة الجيش الإسرائيلي ذلك (هذا يسجل لهم) في كل لقاء مع المراسلين، لكن بطريقة ما هذا التحذير تم نسيانه في الطريق الى البث.

خطوة بعيدة جداً
قضية الأنفاق ترافقها قضية ثانوية غريبة. في ليلة الخميس بعد منتصف الليل ابلغ القسم الخارجي في وحدة المتحدث بلسان الجيش الاسرائيلي المراسلين الاجانب ببيان في الواتس آب بأن قوات جوية وبرية للجيش الإسرائيلي تقوم بمهاجمة القطاع. فهم المراسلون الذين أرادوا تفسيرات شفوية من ضابط كبير في الوحدة أن القوات البرية تعمل على حدود القطاع.
البلاغ كان بلاغا مضللا. عمليا، قوات مشاة ودبابات ومدفعية عملت من الجانب الشرقي للحدود وفقط ولدت الانطباع بأنه سيكون هناك دخول بري. هذا لم يظهر كخطأ للمتحدث الذي اطلق البيان لأن المعلومات تمت المصادقة عليها بعد ذلك من قبل الضابط. قام المراسلون الاجانب  بتعديل النشر بعد أن فحصوا مع نظرائهم الإسرائيليين واكتشفوا أن هذا النبأ غير حقيقي.
طوال يوم الجمعة نشرت في وسائل الإعلام الإسرائيلية المنشورات المضللة في وسائل الإعلام الأجنبية كعملية اخرى لامعة للجيش الاسرائيلي.
هكذا قمنا بتضليل حماس. المخربون قرؤوا في مواقع الانترنت واعتقدوا أن هناك عملية برية، وقاموا بالهرب إلى الانفاق وهناك أدركتهم القنابل الذكية لطيارينا. هذا الوصف هو وصف غير دقيق حقا.
ما الذي حدث في تلك الليلة بالضبط؟ ممثل المتحدث بلسان الجيش شرح أول أمس للمراسلين الأجانب بأن هذا الخطأ هو خطأه وأنه كان نابعا من ضباب المعركة. واختيار صيغة غير ناجحة جعله يخطئ ببضعة امتار وعدم التمييز بين اطلاق عن بعد الذي تم من خارج القطاع وبين الدخول البري الى داخل المنطقة الفلسطينية. الأجانب، ومن بينهم مراسلون في وسائل إعلام رائدة في العالم، لم يقتنعوا.
هل الخطأ كان بحسن نية نتيجة التعب، أم أنه كان هنا تضليل متعمد كجزء من العملية؟ المتحدث بلسان الجيش قال إن هذا كان مجرد خطأ. في المقابل، وسائل الاعلام الإسرائيلية تواصل النشر بحماس بأنه في العملية تم استخدام «خلية خداع تابعة لهيئة الاركان». وليس من الغريب أن المراسلين الاجانب غضبوا من ذلك.
اسرائيل بحاجة إلى علاقات سليمة مع وسائل الاعلام الاجنبية اثناء الحرب. وضمن امور اخرى هي بحاجة إلى الحفاظ على مصداقيتها في نظرهم من اجل دحض افتراءات الاخبار الفلسطينية الكاذبة التي يتم نشرها في كل عملية، وتلقي التهمة على الجيش الإسرائيلي حتى عند قتل مدنيين لأسباب اخرى. ولكن من كذب مرة واحدة على مراسل اجنبي لن يحصل على فرصة اخرى ليقول له الحقيقة (ليت وسائل الإعلام الإسرائيلية تتبع هي ايضا معايير مشابهة). وتسلسل الاحداث يعرض الاجانب كأغبياء سقطوا في شرك الجيش الاسرائيلي، والأخطر من ذلك كمتعاونين عن قصد مع اسرائيل.
إن هذا التشكك يبدو مبرراً على خلفية الاشراك المتزايد للمتحدث بلسان الجيش في عمليات حرب نفسية يمارسها الجيش في السنوات الاخيرة.
قبل سنتين ثارت للحظة عاصفة عندما قام المتحدث بلسان الجيش بخلق صورة غير واضحة ومتعمدة مدة ساعتين تقريبا عن طريق اعطاء معلومات عن مصابين (لم يكونوا) في حادثة قام فيها حزب الله باطلاق صاروخ مضاد للدبابات على سيارة اسعاف عسكرية لأن الجيش الإسرائيلي اراد أن يغرس لدى العدو شعورا مضللا بأنه نجح في عمليته.
اذا حدث ما اعتقد الأجانب بأنه حدث فان الجيش ذهب في هذه المرة خطوة بعيدة جدا، ويجب عدم الشك بضابط قسم المتحدث بلسان الجيش الإسرائيلي، الذي فعل ذلك كمبادرة مستقلة. سيكون هذا خطأ كبيرا وضارا بالعلاقات مع الصحافة الدولية. والأخطر من ذلك هو أن هذا يمكن أن يعرض للخطر حياة مراسلين اجانب يعملون في قطاع غزة لأن الفلسطينيين سيعتبرونهم مسؤولين عن المس برجالهم.  
أصبحت هذه القضية تثير انتقاداً وغصباً في اوساط وسائل الاعلام الرائدة في العالم. وفي الجيش الاسرائيلي وعدوا بفحص الحادثة، لكنّ هناك تخوفا من أن القضية سيتم دفنها.
أثار هذا البيان حرجا آخر. في يوم الخميس تم عقد محادثة على مستوى رفيع بين جهاز الامن والبنتاغون الاميركي.
في هذه المحادثة تم التوضيح للأميركيين بأنه لا توجد أي نية في هذه المرحلة لإدخال قوات إلى القطاع.
وبعد فترة قصيرة تم نشر تقارير المراسلين الأجانب في اسرائيل. طلب الأميركيون توضيحات وجهاز الأمن اضطر إلى أن يشرح لهم بأن الأمر يتعلق بتقرير مضلل.

عن «هآرتس»