أيام قليلة كانت كافية لأن تكشف حقيقة إسرائيل، كدولة إرهابية متوحشة، كما قال قبل أيام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، دولة تمارس التطهير العرقي في مدينة القدس، وتحرم مواطني المدينة المحتلة من ممارسة أبسط حقوقهم في الحياة، أداء الصلاة والشعائر الدينية في المساجد والكنائس، مقابل رعاية ودعم اعتداءات المستوطنين/ المستعمرين، على ممتلكات وحياة المواطنين الفلسطينيين، دولة تمارس العنف المفرط للغاية تجاه المتظاهرين في الضفة الغربية لدرجة أن تصيب أكثر من ألف إنسان في يوم واحد بالرصاص الحي والمطاطي، وقتل نحو اثني عشر منهم مباشرة، فهي تواجه المتظاهرين بالجنود وليس بعناصر الشرطة، دولة ترتكب جرائم الحرب ضد قطاع غزة، وتطلق الصواريخ المضادة للدروع ضد البشر، وتلحق الدمار الشامل بالمنازل السكنية، فتقتل عائلات بأكملها، دولة عنصرية كذلك، داخل حدودها، حيث أطلقت جنودها وميلشيات اليمين المتطرف ضد المواطنين العرب بهدف ترحيلهم، فاقتحم الجنود المدججون بالسلاح وميليشيات اليمين المتطرف بيوت ومساجد العرب في مدن اللد وحيفا ويافا وأم الفحم.
من الواضح بأن الأمور قد وصلت إلى حد فاصل، بعد تراكمات عشرين عاما، واصلت إسرائيل خلالها عملية التحول نحو اليمين ومن ثم اليمين المتطرف، حيث حكم الدولة اليمين منذ العام 2000 وحتى اليوم، تلاشى خلال تلك السنوات اليسار وقوى السلام التي كانت تقول بحل سياسي وسط وتاريخي مع الشعب الفلسطيني، يضع حدا للاحتلال الإسرائيلي ويقيم دولة فلسطينية قابلة للحياة إلى جانب إسرائيل، تعيشان معا في سلام، في حين صبر الجانب الفلسطيني وظل مصرا على متابعة عملية السلام، والتزم بالاتفاقيات بين الجانبين، وبعد أن نجح اليمين في منع التوصل للحل النهائي، منذ العام 2000, وضع حدا للتفاوض منذ العام 2014، ولم يبق الأمر عند هذا الحد، بل ظهر اليمين المتطرف، المستند لقاعدة المستوطنين الانتخابية، والذي سرعان ما شارك اليمين التقليدي/ الليكودي في الحكم، حتى وصل بنتيجة الانتخابات الأخيرة بزعيمه نفتالي بينيت إلى أن يكون مرشحا لرئاسة الحكومة.
تبدو إسرائيل بعد عشرين عاما من التحول اليميني، دولة تنادي ليل نهار بشن الحروب في كل اتجاه، وهي تشعر بأن العالم قد تغير في نفس الوقت، لذا يسعى اليمين فيها إلى فرض الهيمنة التامة على الفلسطينيين أولا، بطي صفحة إنهاء الاحتلال وإقامة دولة خاصة لهم، ثم على مجمل الإقليم، بنزع القوة العسكرية والاقتصادية عن كل من إيران وتركيا، بعد أن حقق تفتيت وإضعاف الدول العربية المركزية، في كل من العراق وسورية.
وفي دوافع السياسة الآنية، دفعت حكومة تصريف الأعمال التي يقودها الثنائي بنيامين نتنياهو وبيني غانتس، وهي آخر منجزات الرئيس الشعبوي الأميركي المنصرف عن البيت الأبيض دونالد ترامب، كانت الحرب ضرورية لرجل تزعم إسرائيل أربعة عشر عاما متواصلة، ويواجه تهم الفساد قضائيا، لقطع الطريق على نجاح خصمه يائير لابيد المكلف تشكيل الحكومة البديلة، وقد نجح في هذا حتى اللحظة، لذا لا يقبل بوقف إطلاق النار، كذلك سعت إسرائيل لعرقلة مباحثات فيينا، ومنع أميركا من العودة للاتفاق النووي مع إيران، وقد كان الموقف الإسرائيلي واضحا منذ ما قبل شن الحرب، ومنذ البدء في توتير الأجواء في القدس، حين طلبت من واشنطن عدم التدخل في شؤونها الداخلية، كذلك وجدت اللحظة مناسبة، لأن واشنطن لا يمكنها أن تطالب إسرائيل بضبط النفس، دون أن توافق على المقابل السياسي، وهو التراجع عن مسار المباحثات في فيينا.
بعد أسبوع من المواجهة الشاملة، يمكن القول، إنه على الأرض ألحقت إسرائيل خسائر بشرية ترضي غرورها المريض والسادي، وقد أوقعت إسرائيل أكثر من مائتي شهيد ونحو ألفي إصابة بين صفوف المدنيين الفلسطينيين، في أقل من أسبوع، كذلك ألحقت دمارا شاملا في المباني والبنية التحتية خاصة في قطاع غزة، لتشريد عشرات الآلاف من المواطنين الفلسطينيين، ومن ثم تحويل قطاع غزة إلى عبء اجتماعي على أي سلطة، سلطة «حماس» أو السلطة الفلسطينية، في قادم الأيام.
لكن بالمقابل، ظهر الشعب الفلسطيني موحدا كما لم يكن في أي يوم من الأيام من قبل، فقد فشلت إسرائيل في الاستفراد بالقدس، أولا، وبقطاع غزة ثانيا، حين هبت الضفة الغربية عن بكرة أبيها في انتفاضة ثالثة، امتدت لتشمل كل مدن وقرى الضفة الغربية، في حين كانت مدن الداخل تنتفض دفاعا عن وطنها، وعن حقوقها المدنية في اللد ويافا وحيفا وأم الفحم وبئر السبع، الجليل والمثلث، وأظهرت المقاومة في قطاع غزة رباطة جأش، حيث نجحت في إطلاق نحو ثلاثة آلاف صاروخ وصلت إلى القدس وما بعد تل أبيب، ألحقت خسائر معنوية واقتصادية وكذلك بشرية في إسرائيل، وظهرت كمقاومة ناضجة عسكريا، حين نجحت في تعطيل القبة الحديدية بإطلاق عشرات الصواريخ معا في كل رشقة تطلقها.
ثم كان أن خرجت الجماهير العربية في دول الجوار، وعلى الحدود التي ما باتت محرمة على تلك الجماهير، في الأردن، لبنان وسورية، ثم سرعان ما عادت صورة التضامن مع الشعب الفلسطيني لتجوب المدن والعواصم العربية والأجنبية من سيدني إلى تكساس وما بينهما، واللافت هنا، ليس فقط ظهور الاحتجاجات الشعبية العالمية في مدن وعواصم الغرب الأوروبي، بل أن تظهر على هذا الشكل القوي في المدن الأميركية.
أظهرت الاحتجاجات خلال أيام الأسبوع الأول من الحرب الإرهابية الإسرائيلية، أن العالم بأسره يدين إسرائيل، ويعيد القضية الفلسطينية إلى واجهة التداول العالمي، لكن مقابل صمت رسمي، تسبب به الموقف الأميركي المتردد في مجلس الأمن، وهذا عمليا يزيد من غضب الشعوب في كل مكان، على حكومات العالم التي ما زالت عاجزة عن مواجهة آخر قوة إرهاب عسكري، تمارس جرائم الحرب في القرن الحادي والعشرين، بما يعني بأن معادلة السياسة تنقلب رأسا على عقب، بما في ذلك الموقف الأميركي التقليدي أو المعتاد، المنحاز تاريخيا لإسرائيل، فالتحولات لا بد أن تطال تلك السياسة الأميركية، كذلك لابد أن تطال أسوأ سمتين لدولة إسرائيل، وهما الاحتلال، المتمثل باحتلال أرض وشعب دولة فلسطين، والعنصرية الممارسة ضد العرب الفلسطينيين من مواطني دولة إسرائيل نفسها.