رُهاب القداسة
لعل أكثر ما أساء، وما زال يسيء، إلى القضية الفلسطينية، هو وضعها في مرتبة المقدس، الأمر الذي يحشرها في رؤية محدَّدة لا تستطيع مغادرتها، ويمنع فرصة نقاشها بصورة عقلانية، بحكم الرهاب الذي يثيره كل مقدّس. ولا يقف أمر المقدس عند القضية ذاتها فحسب، بل يمتد ليطال كل ما يتعلق بها، مثل المقاومة وآلياتها، بل وحتى أشخاصها، وقد يصبح أحيانًا امتطاء القضية المقدسة سبيلًا مختصرًا إلى القداسة الشخصية.
النزول بالقضية الفلسطينية من القداسة إلى السياسة يعني أنه ينبغي للقضية الفلسطينية ألا تثير رهابًا لكل من يريد مناقشتها خارج دائرة الرؤية السائدة أو المهيمنة، وينبغي ألا يكون ذكر اسمها فقط بوابة لكل من يريد الدخول إلى ساحة الأخلاق والوطنية والمقاومة، فقد استخدمتها أنظمة وجهات عديدة لتثبيت مشروعيتها وشرعيتها، وطمعًا بارتداء لبوس قومي أو وطني أو ديني يتيح لها القيام بكل شيء من دون نقد أو تشكيك.
مع هالة القداسة التي تُرسم للمقاومة المسلحة مثلًا، تصبح نقطة الدم في سبيل القضية أهم من كل تفكير أو نضال لأجل القضية ذاتها؛ هل يمكن أن يستوي الذين يقدمون حياتهم للقضية مع أولئك الذين لا يجيدون إلا الكلام؟! هذا أحد أساليب قتل القضية أكان ناجمًا عن قصد أو غير قصد، عن وعي أو من دونه، على الرغم من أن هدف التفكير هو الحدّ من هدر الدماء بلا طائل أو جعل الدماء المبذولة ذات ثمن كبير. هذه القداسة تقتل القضية بدلًا من أن تفيدها؛ في لحظة من اللحظات، تحول انشقاق عنصر أو ضابط على النظام السوري إلى حالة مقدسة في نظر كثير من السوريين، ما شجّع المنشق على الإفتاء في كل شؤون السياسة والحرب والثورة والاقتصاد والحقوق، بل وإعطاء شهادات في الثورية والوطنية للآخرين، على الرغم من أنه أمضى ثلاثين سنة من عمره خانعًا ومصفِّقًا في المؤسسة العسكرية الرسمية.
الإنسان أولًا
هناك أهمية كبيرة دائمًا لنقد خطاب الضحية، أما الاكتفاء بتشريح خطاب الجلاد ونقده، فإنه لا يفيد الضحية لأنه يقود غالبًا إلى غرق الضحية في الأخطاء والأوهام الذاتية. لعل أكثر ما يزعج في كل معركة مع “إسرائيل” عندما يُقال إننا أوجعنا الإسرائيليين جدًا، فعلى الرغم من أنهم قتلوا منا ألفًا إلا أننا قتلنا منهم خمسة. يردِّد كثيرون مثل هذا الكلام أو ما يشبهه، من دون إدراك للمعنى العميق، أو في الأحرى للمشكلة الكبيرة التي تكمن في ثناياه؛ مؤلم جدًا أن ننظر إلى مواطنينا بوصفهم أرقامًا فحسب. المعنى الكامن وراء هذه الرؤية هو أن مواطننا رخيص ومواطنهم غالي الثمن، وأننا لا نحترم مواطننا وحياته فيما هم يحترمون حياة مواطنهم ويكترثون لها. ماذا تعني القضية الفلسطينية من دون الفلسطينيين، ماذا يعني الوطن بلا مواطن؟! هذا خطاب كل مستبد؛ يرفع من شأن القضية، ويخفض من قيمة الإنسان، لتتحول القضية تدريجًا إلى شعار في الفراغ، يُقتل باسمه المواطن الذي هو جوهر القضية وأساسها.
لعل السؤال الأول الذي يخطر في بال الحكيم هو السؤال عن حجم خسائره لا الحديث عن حجم خسائر الخصم أو العدو. هكذا يفكر رجالات الدولة، بينما رجالات الإمارات والفصائل والميليشيات يهتمّون، عمومًا، بخسائر الآخر ولا يهتمون بخسائرهم، وكأن خسائرنا لا قيمة لها أو قدر محتوم ينبغي لنا التسليم به كيفما كان.
يظهر أن لدى فصائل المقاومة الفلسطينية إمكانات مادية مقبولة، ولديها الخبرات التقنية والهندسية أيضًا؛ لماذا لا تستغل الفصائل مراحل الهدوء مع “إسرائيل”، فتبني الملاجئ والبنى المحصنة التي يمكن لها أن تحمي حياة البشر في مراحل العدوان والقصف، من يبرع في حفر الأنفاق يبرع في حفر الملاجئ؟! ربما تفعل فيما نحن لا نعرف، وربما ما تحتاج إليه أكثر مما هو متوافر بين يديها. لكن حسبنا أن نقول، من دون تشكيك، إن العدد الكبير من الضحايا الفلسطينيين من جراء القصف يشير إلى أن هناك قصورًا في الاهتمام بساحة المعركة الخلفية؛ ساحة البشر والمواطنين وحيواتهم.
ماذا كان يمكن لحماس أن تفعل؟
ماذا كان يمكن أن تفعل حماس استجابة للحدث المقدسي؟ لا بدّ أولًا من طي الحجة القائلة: حماس أدرى بشعابها أو الحجة الأخرى التي تقول إنه لا يجوز التنظير على من هم تحت النار، وفي قلب المشكلة. هذه الحجج تشبه الكواتم الصوتية التي استخدمها سوريون كثيرون، ونخب سياسية ثقافية سورية متنوعة، لمنع النقد انطلاقًا من تحليلاتهم الواهمة باقتراب الانتصار على النظام السوري.
بعيدًا عن شعارات “الانتصارات الإلهية” و”إسرائيل في مأزق” و”اقتراب نهاية إسرائيل” التي تلوكها وتعجنها وتستثمر فيها أنظمة حاكمة وفصائل مسلحة وقنوات فضائية أيديولوجية، لا بدّ من الاعتراف بأن مسيرتنا الماضية لم تنتج إلا الهزائم، ولم تؤدِّ إلّا إلى ازدياد إسرائيل تعملقًا وازديادنا قزامة. هذا التوصيف صحيح بوجود حماس والجهاد الإسلامي، وقبلهما، وجميعنا مدانون فيه. الهزيمة المستمرة تستوجب وتفرض النقد، والتشكيك بصوابية الخيارات المتخذة على مستوى الخطاب والأداء. النقد مطلوب في كل لحظة ووقت.
كان في إمكان حماس تنظيم تظاهرات واسعة نصرة للقدس والمقدسيين، في غزة وخارجها، بل وفي بلدان عربية أيضًا تربطها بها علاقة وثيقة. وكان يمكنها أن تقوم باحتكاك خشن نوعًا ما عند الجدار الفاصل بين غزة وفلسطين، أو حشد الدعم الإعلامي لرفع الحصار عن غزة، جنبًا إلى جنب مع قضية القدس. لكن حماس ذهبت مباشرة باتجاه استخدام الصواريخ. وربما كان ذلك في سبيل تعزيز شعبيتها، وهي تعرف أنها ستحصل على احتضان شعبي واسع بسببها، وعلى الرغم من كون هذا حقًا لها، مثلما هو حقّ لغيرها، إلا أنه ليس محتومًا أن يعود بخير استراتيجي على مستوى القضية الفلسطينية.
كان يمكن استثمار هذه الهبة الشعبية، الفريدة والنوعية، التي وحّدت الفلسطينيين في كل فلسطين، لمصلحة ما هو وطني فلسطيني، تغيب فيه ثنائية فتح – حماس التي اختزلت الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية، بل وأضرتهما، وهذه تحتاج إلى عقل استراتيجي وطني بعيد النظر. كان يمكن لحماس أن تضع نفسها في مرتبة ثانية، وأن تبرز قضية القدس والمقدسيين إلى السطح. إذا كانت القضية الفلسطينية مركزية، فقلب هذا المركز هو قضية القدس والمقدسيين، وهذا أكثر إيلامًا لإسرائيل من الخسارات العسكرية العابرة. بعد صواريخ حماس أصبح التركيز أكثر كثيرًا عليها مقارنة بقضية القدس والمقدسيين. معادلة الربط بين غزة والقدس مسألة مهمة، لكن على أساس وطني، واستراتيجية وطنية، لا على أساس حسابات انتخابية.
جدوى تدخل حماس بسلاحها؟
هناك أسئلة منطقية وطبيعية يمكن أن تُطرح؛ ما جدوى تدخل حماس بسلاحها على خط الصراع الحالي في القدس؟ أليست السلمية، في هذا الحيز، أكثر نفعًا لكسب التأييد العالمي في مواجهة المعتدي؟ أليست المواجهة العسكرية هي ما ترغب فيها إسرائيل، وتتفوق فيها أيضًا؟ لا شك في أن لحماس تقديراتها السياسية، ولا يمكن نفي الحسابات الاستراتيجية عن قادتها، خصوصًا أن لهم باعًا طويلًا في السياسة والعمل المسلح. لكن من قال إن حماس لا تخطئ؟! وأن من ينتقدها يغرد خارج السرب حكمًا؟!
ربما لا نعرف الكثير عن عدّة حماس وعتادها، ولا عن حساباتها وإستراتيجياتها وارتباطاتها، لكن يمكننا أن نقرأ حصيلة أعمالها، وأعمال بقية القوى، وأعمال دول عربية وإقليمية، طوال ربع قرن؛ بالمعنى الاستراتيجي، هل تقدمت القضية الفلسطينية بوجودها وأعمالها أم تراجعت؟!
يخبرنا التاريخ أن العنف جزء من السياسة، كرهنا ذلك أم أحببناه، ويخبرنا القانون الدولي أيضًا أن مقاومة المحتل مشروعة بجميع الوسائل. وهنا يأتي دور الفاعلين السياسيين الذين ينبغي لهم ربط العنف المستخدم بحسابات معقدة ومتغيرة تستند إلى عنصري الزمان والمكان، وإلى الواقع المحلي والإقليمي والدولي، فضلًا عن واقع العدو، إضافة إلى السؤال عن إمكان تحقيق مكاسب سياسية باستخدام قدر ما من العنف، وردات فعل العدو المحتملة إزاءه، وعدد الضحايا المتوقع، ومدى القدرة على قبوله واحتماله.
هل تدخل مثل هذه الحسابات في عقل حماس؟ نعم بالتأكيد، لكن ليس بالضرورة أن تخدم حساباتها الخاصة القضية الوطنية الفلسطينية والفلسطينيين، خصوصًا إن كان هناك اختلاف في النظر إلى القضية ذاتها أصلًا. لحماس حسابات دقيقة ومعقدة، لكنها تخدم حماس ومشروع حماس وارتباطات حماس ورؤية حماس إلى القضية الفلسطينية. بعض قادة حماس ينظرون إلى فلسطين بوصفها ساحة جهاد لا أكثر، ومحطة عابرة، ولذلك من الطبيعي وفق هذا المنطق عدم الاكتراث لخسائرها وخسائر الفلسطينيين. حماس تعمل بدلالة اليأس، يأسها من المجتمع الدولي، ومن الواقع العربي، لذلك غالبًا ما يكون المعيار الأساس الذي يحكم خياراتها هو: كيف يمكن أن نوجع إسرائيل؟ وكيف نُشعر الإسرائيليين أنهم غير آمنين؟
هذه الرؤية تدفع صاحبها إلى تغييب معايير وعناصر أخرى تضبط العمل المسلح، كأن يغيب عنه أهمية الاهتمام بحياة الحاضنة الشعبية، ما يتطلب تحضيرًا على هذا المستوى قبل أي عمل عسكري، أو السؤال عن المردود السياسي المتوقع من أي عمل عسكري قبل الخوض فيه؛ بالطبع، لا يُطلب من الفصائل المسلحة تحقيق توازن عسكري مع العدو، هذا وهم. لكن يفترض ألّا تنشر الفصائل المسلحة أيضًا الوهم بقدرتها على القضاء على إسرائيل. أما في حال فرضت المعركة العسكرية فرضًا على حماس أو غيرها، فمن حق الناس وقتها ألا تموت من دون مقاومة أو من دون إيلام العدو عسكريًا.
كسب معركة الرأي العام الدولي
إن القول “ليس لدى غزة اليوم ما يمكن أن تخسره بعد حصار وعدوان مستمرّين طوال خمسة عشر عامًا” هو قول يائس، ودعوة إلى الموت؛ لأنه يترك حماس والفلسطينيين من دون خيارات غير خيار المواجهة العسكرية من دون أي اكتراث لنتائجها أو خسائرها في الجانب الفلسطيني. في السياسة ينبغي لنا دائمًا وأبدًا البحث عن الخيارات الأقل سوءًا مهما كانت قساوة واقعنا.
صحيح أن الرأي العام الدولي لم يقف إلى جانب فلسطين والقضية الفلسطينية، لكن هذا لا يعني أنه غير مهم، ومن ثمّ إدارة الظهر له. هذه أيضًا دعوة يائسة، وليست خيارًا سياسيًا عقلانيًا. تحرص إسرائيل كثيرًا على كسب الرأي العام، ولوبياتها تملأ العالم، وتأثيرها واضح في كل مناسبة؛ أكثرية قادة العالم مثلًا يكرِّرون العبارة الإسرائيلية الأثيرة لدى حكوماتها “من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها”. هذا التوجه الثابت تقريبًا هو نتاج شغل طويل ومستمر لإسرائيل على الرأي العام العالمي وحكوماته.
يظهر بالنسبة إلى الكثيرين أن الرأي العام لا فاعلية له، وهو لا يخرج عن حدود الاستنكار والقلق، وأن الدول الكبرى والمصالح هي التي تتحكّم في المواقف وبمسارات الأحداث السياسية. هذا صحيح نسبيًا، لكنه غير مطلق، إذ يمكن للرأي العام في المجتمعات الحديثة أن يغيّر بدرجة ما من مواقف حكوماتها، بل إن مواقف الحكومات لا تخرج عادة بصورة حادة على مواقف مجتمعاتها.
هذا كله معناه أننا لم نكسب معركة الرأي العام سابقًا، ومن ثمّ لم نمتلك أدوات التأثير الفعلية في حكومات الدول. يُفترض ألّا يكون عجزنا عن، أو فشلنا في، كسب تأييد الرأي العام، مبرِّرًا أو حجة لإدارة الظهر للعالم ومجتمعاته، بل ينبغي أن يكون حافزًا لنا لطرح السؤال الصحيح؛ كيف يمكن أن نكسب الرأي العام الدولي، ما الخطاب الملائم، والأدوات والأساليب الممكنة؟! كسب الرأي العام العربي مثلًا يمنع حكومات عربية عديدة من أن تتجرأ على السير في قطار التطبيع مع إسرائيل، وهو الأمر الذي زاد القضية الفلسطينية خسارةً.
القضية الفلسطينية قضية سياسية، لا دينية
إمعانًا في رسم هالة مقدسة حول القضية الفلسطينية، يجري أحيانًا إيصالها إلى الرأي العام العربي بطريقة مختزلة تحشرها في إطار الدفاع عن المقدسات الدينية؛ المسجد الأقصى هو أحد مقدساتنا فعلًا، لكنه لا يستنفد القضية الوطنية الفلسطينية، وهذه الأخيرة لا تُختزل بالمقدسات الدينية. القضية الفلسطينية في الجوهر قضية سياسية، قضية شعب احتُلّت أرضه من كيان استيطاني وعنصري.
لو بقي الأمر في حدود قدسية المسجد الأقصى – وهو يفترض أن يكون مقدسًا لدى المسلم والمسيحي واليهودي على السواء، تمامًا كما هو حال كنيسة المهد والمقدسات الأخرى – لما كانت هناك أي مشكلة، لكن الذي حصل، وما يزال يحصل، هو النظر إلى القضية الفلسطينية، وإيصالها داخليًا وعربيًا ودوليًا، بوصفها قضية دينية أساسًا لا قضية وطنية، وهذا أخذ القضية إلى مسارات مسيئة إليها، لتصبح رهينة الاستقطابات المذهبية والمحاور الإقليمية. أصلًا هذه الرؤية لا تختلف عن رؤية العدو الذي يسعى بكل طاقته لتثبيت يهودية إسرائيل. وهكذا، تغيرت طبيعة الصراع العربي/الفلسطيني-الإسرائيلي من صراع سياسي إلى صراع ديني لا يخدم الفلسطينيين ولا العرب، ولا الأديان السماوية.
منذ نحو عام، أشار السيد محمود الزهار، القيادي في حركة حماس، في مقابلة له، إلى أن الهدف الأساس لجماعته ليس تحرير فلسطين، بل أكبر من ذلك، “أما فلسطين بالنسبة إلينا، فهي كمن أحضر مسواكًا ينظِّف به أسنانه، مشروعنا أكبر من ذلك، فلسطين لا تظهر على الخريطة”. لم تكن هذه أول مرة يتحدث فيها رجالات حماس بصيغة كهذه؛ فقد عبروا مرات عديدة عن أن مشروعهم يتجاوز حدود الوطن (فلسطين). المقاومة حق مشروع قانونيًّا وإنسانيًا، وجوهر المقاومة دائمًا هو وجود الإنسان الرافض للظلم، وهو الرقم الصعب في أي نضال، ولا شيء يسيء إلى المقاومة ويفرِّغها من محتواها أكثر من تغييب الصفة الوطنية.
ينبغي لنا الاعتراف أيضًا بأن إسرائيل قد أخذت شيئًا من حضارة الغرب وتقدّمه، على مستوى إدارة الدولة بصورة خاصة. في إسرائيل يوجد دواعش يهود، لكنهم قبلوا بدخول البرلمان/الكنيسيت، والعمل وفق القواعد الديمقراطية، في دولة فيها شيء من الحداثة؛ إسرائيل دولة تجمع حكوماتها بين الحداثة والهمجية في قالب واحد، بينما دولنا لم تجمع حكوماتها سوى بين الهمجية والهمجية، أما دواعشنا فما زالوا يرفضون الدولة الحديثة ومنطقها وأدواتها، سعيدين بالعقلية الفصائلية والميليشياوية خارج الدولة أو على هامشها. إسرائيل دولة احتلال استيطاني، تحتل الأرض الفلسطينية، انتهكت حقوق الشعب الفلسطيني، وارتكبت جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في حقه، تقودها حركة صهيونية عنصرية، استثمرت كثيرًا، وما تزال، في المسألة اليهودية.
ينبغي أن تكون لدينا رؤية واضحة تجاه فلسطين والقضية الفلسطينية، من دون خلطها بتوترات المحاور الدينية والمذهبية، ومن دون طلائها بلبوس ليس لها كردّة فعل على سلوك دولة الاحتلال. وفي القلب من هذه الرؤية لا بدّ من إيجاد حلٍّ للمسألة اليهودية في فلسطين. لقد صدّر لنا الغرب هذه المشكلة في مرحلة من المراحل، والفلسطينيون، بل العرب كلهم، معنيون بإيجاد حلّ لها، هذا قدرهم؛ حلّ ينطلق من خلق دولة وطنية ديمقراطية فلسطينية تحتضن الأديان والمعتقدات جميعها، وتفكِّك المؤسسة الصهيونية، ولا تمنع التواصل الجغرافي بين المشرق والمغرب العربيين. هذه أفكار للمستقبل البعيد، لأن لا أحد يستطيع التحرك في الواقع الراهن من دون رؤية ما إلى المستقبل.
إعادة بناء النضال الوطني الفلسطيني
غالبًا ما يُختزل ميزان القوى إلى تعبيراته ودلالاته العسكرية، في حين إن ميزان القوى الحقيقي هو ذاك الذي يأخذ أبعادًا شاملة تطال المستويات والميادين كلها. لعل أهم نقطة في هذا السياق تتمثل بإعادة القضية الفلسطينية إلى جوهرها المتمثل بوجود شعب فلسطيني في مواجهة عدو محتل، وهذا يمكن أن يكون عبر التزام مهمة إعادة بناء التمثيل الوطني الفلسطيني “منظمة التحرير الفلسطينية” أو غيرها، على أسس سياسية جديدة، وهذا التمثيل هو الذي يُناط به بناء استراتيجية وطنية فلسطينية على المستويات كافة، بما يعني ألّا يكون قرار الحرب والسلام بيد فئات أو فصائل أو جماعات، بصرف النظر عن معتقداتها وتوجهاتها الأيديولوجية، بل بيد التمثيل السياسي للشعب الفلسطيني.
كثيرًا ما كنا نسمع نقدًا فلسطينيًا، بل وعربيًا، في وجه من أُطلق عليهم اسم (عرب أو فلسطينيو الـ 48)، فإذا بهم اليوم يشاركون بفاعلية في الانتفاضة الوطنية الفلسطينية. هذا يشبه إلى حدٍّ ما الاستهزاء الذي واجه به “ثوار سوريون” و”نخب ثورية سورية” إخوتهم السوريين تحت سلطة النظام السوري معيبين عليهم صمتهم، وقاطعين الطريق عليهم سلفًا من حيث احتمال تغيّر آرائهم أو حدوث أوضاع جديدة تدفعهم أو تسمح لهم بالمشاركة في عمل وطني سوري مستقبلًا. إن ضيق الخلق والنفس القصير وضآلة الفهم الوطني ونقص التفكير الاستراتيجي، كلها يمكن أن تجعل “الثوري” أو “الوطني” عقبة حقيقية في وجه الثورة أو الوطن، من دون أن يدري، وهذه مأساة حقيقية سببها الرئيس هو شقاء الوعي.
حرصت إسرائيل على تجزئة وتذرير الشعب الفلسطيني خلال العقود الماضية؛ لأن وجود الشعب الفلسطيني موحدًا، ووجود التمثيل السياسي الموحد له هو أكثر ما يؤلمها، ويهدِّد شرعيتها. عملت إسرائيل، وساعدتها حكومات عربية، وقوى عربية وفلسطينية، قصدًا أو جهلًا، على تقسيم الفلسطينيين بطرق متنوعة، منها تقسيمهم على أساس جغرافي؛ جرى تقسيمهم إلى فلسطينيي الـ 48 وفلسطينيي الـ 67 وفلسطينيي الضفة الغربية وفلسطينيي قطاع غزة، وفلسطينيي الشتات… إلخ. لذلك، فإن إعادة بناء مفهوم الشعب الفلسطيني، والنظر إلى الفلسطينيين بوصفهم شعبًا واحدًا، واعتبار فلسطين كلها ساحة واحدة، وإعادة بناء التمثيل السياسي الوطني الديمقراطي للفلسطينيين على هذا الأساس، هو العنصر المركزي والأهم في تغيير موازين القوى.
بعد انقشاع غبار المعارك، سنعدّ ضحايانا وخسائرنا بصمت، وسنرفع أصواتنا، كالعادة، بالنصر الإلهي، وسنفخر بقدرتنا على تغيير قواعد الاشتباك؛ مقولة يردِّدها كثيرون اليوم، فضلًا عن قنوات إعلامية عديدة. مع أن قواعد الاشتباك لا تتغير إلا بفعل تغيرات استراتيجية نوعية، لعل أهمها وحدة الشعب الفلسطيني، ومركزية التمثيل السياسي الفلسطيني.
هذا الحدث فرصة مهمة لإعادة بناء النضال الفلسطيني. ستتوقف المعارك عاجلًا أم آجلًا، بمساعدة مصرية أو قطرية أو تركية أو أميركية… إلخ، وبدلًا من الاستغراق في عدّ ضحايا وخسائر إسرائيل، لا بدّ من الانهماك فعلًا في توحيد الفلسطينيين في كل العالم استنادًا إلى رؤية فلسطينية وطنية ديمقراطية، فهذا هو ما سيبقى بعد انقشاع المعارك، وهذا هو المكسب الحقيقي الذي يمكن أن يبنى عليه، وهو فعلًا ما يمكن أن يغيِّر شيئًا في موازين القوى، ويؤلم إسرائيل حقًا. أما خسائر إسرائيل البشرية فستطوى بعد مدة زمنية، وستعوِّض خسائرها المادية ببساطة أو ستتلقى المساعدة من دول أخرى، وستنشغل مراكز بحوثها العسكرية في استكشاف نقاط ضعف قبتها الحديدية أو البحث عن حلول أخرى لتعزيز أمنها.
كلمة أخيرة
ليست الغاية من هذه المقالة إدانة حماس أو غيرها، فحماس جزء من الشعب الفلسطيني، وجزء من مقاومته الوطنية في الحصيلة، ولا الغاية التنظير على قياداتها وكوادرها، خصوصًا مع معرفتنا ببؤس الوضع الفلسطيني عمومًا، وبالزاوية الضيقة التي حُشر فيها الفلسطينيون جميعهم، بمساهمة الأنظمة العربية أولًا، “الممانعة” منهما و”المطبِّعة” على حد سواء، فضلًا عن المجتمع الدولي بدوله الكبرى الذي لم يكترث يومًا للحقوق، وما زال مستمرًّا بالسير بطريقة عرجاء على قدم واحدة، قدم المصالح العارية والوقحة. الغاية كل الغاية هي ألّا تضيع تضحيات الفلسطينيين، ومن بينها تضحيات حماس نفسها، سدىً، وألا تضيع فرصة السير خطوات في طريق تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية، كما ضاعت فرصة الوحدة الوطنية السورية من قبل.
* كاتب وناشط سياسي وطبيب سوري.