ليس مؤكداً بعد إلى أي حد تحولت هذه الروح الفلسطينية الجديدة إلى حالة راسخة في الوجدان الوطني الفلسطيني، ولا إلى أي حد بتنا نعي وندرك بعمق حجم التغير الهائل الذي أحدثته هذه الروح في ميزان الصراع، وفي المشهد الاستنهاضي الشامل للمشروع التحرري الفلسطيني كله.
الذي بات مؤكداً ومنذ الآن أن هذه الروح الجديدة قد بدأت برسم معالم مرحلة تاريخية لن تتمكن إسرائيل من حصارها، أو التقليل من حجم نتائجها، أو احتواء تأثيراتها ومفاعيلها على ميزان هذا الصراع، ولا على الثمن الذي سوف تدفعه في مواجهتها.
لن يقتصر الأمر على إسرائيل، حتى وإن كانت هي التي ستدفع من اللحم الحي لمشروعها الصهيوني الشامل، ذلك أن هذه الروح الجديدة ستفضي حتماً إلى نتائج وتأثيرات على الحالة الفلسطينية نفسها.
هذه الروح الجديدة وثّابة الطابع والسمات، وعميقة التجذّر والانتماء، ولن تتمكن الحالة السياسية الفلسطينية السائدة ـ كما أرى ـ من تدجينها أو توظيفها، أو حتى استثمارها خارج نطاق المشروع التحرري أو على حسابه، ولا حتى ضبط إيقاعها مع مصالح السلطات الفلسطينية الموزعة بين شطرين، ولا بين مصالح الفصائل والقبائل السياسية هنا وهناك.
يصح لنا أن نضع عنواناً لهذه المرحلة بأنه [الإخفاق الإسرائيلي الكبير]. وإليكم الأسباب:
ـ عادت القدس إلى واجهة الصراع وفرضت حضورها الكامل، وانتهت سياسياً «العاصمة الموحدة لإسرائيل، وتحت السيادة الإسرائيلية»، ومصير القدس الشرقية اليوم بات من مصير المشروع الوطني التحرري، وعلينا، وعلينا فقط سيعتمد هذا المصير، وذلك لأن القدس تحولت إلى حقل ألغام سياسي لكل من سيحاول التلاعب بمصيرها خارج إطار المشروع التحرري الفلسطيني الشامل، ليس فقط فلسطينياً، بل عربياً وإقليمياً ودولياً أيضاً.
أما إسرائيلياً فإن إسرائيل الصهيونية قد فهمت الآن أن «معركة القدس» الموحدة تحت السيادة الإسرائيلية قد انتهت إلى نكسة حقيقية، وأما إسرائيل الصهيونية اليمينية المتطرفة والفاشية والتوراتية والقومية فإنها في الواقع أمام هزيمة مدوية، وهي تدرك جيداً هذا الواقع الجديد ـ القدس كانت الشرارة لهذه الروح الجديدة ـ شرارة أحرقت السهل السياسي الصهيوني كله ـ وألهبت الوجدان الوطني الفلسطيني كله أيضاً، فوحدت شعباً بأكمله، وأجلست مثلث هذا الشعب على قاعدته، بدلاً من رأسه، وتحوّل الداخل والشتات «في غضون عشرة أيام هزّت العالم»، ـ باستعارة عنوان جون رد الشهير ـ وأعادت انصهارها مع ضلع الأرض المحتلة، ليس كضلعين مساندين ـ كما يعتقد البعض، أو ما زال يعتقد ـ وإنما كضلعين أصليين من أضلاع مثلث البطولة الفلسطينية.
وهنا أعادت هذه الروح كامل الاعتبار للحقوق وللقضية، ونسفت كامل مخططات تهميش هذه الحقوق وهذه القضية، ووجهت ضربة موجعة إلى ثقافة التطبيع الخانع الذي تماهى مع المشروع الصهيوني في محاولات التهميش.
«فجأة» «استفاق» بعض أهل الإقليم، وتململ البعض الآخر، أما البعض الآخر فما زال ينام حتى لو أنه فتح عيناً واحدة. و»فجأة» استفاق العالم على ضرورة البحث عن حل سياسي «حقيقي»، وعن نهاية ضرورية لهذا الصراع الدامي والطويل.
وهنا، أيضاً، كأنها انهارت المنظومة السياسية والفكرية التي «ترسّخت» في العقدين الأخيرين في الثقافة السياسية في إسرائيل، والتي صدقت نفسها بأن فلسطين غابت عن الجغرافيا على طريق غيابها عن التاريخ.
في غضون أيام فقط أعيد لمعادلة التاريخ والجغرافيا توازنها المفقود والمفتقد.
كانت تسمى فلسطين، صارت تسمى فلسطين. شطبنا في غضون أيام كل الأرقام عرب الـ 48، وفلسطينيي الـ 67، وتهشّمت الحدود بين الشتات، زأر القطاع وهبّ كل الشتات، وماجت الضفة وانتفض الداخل. واستعاد روحه التي ليس له روح سواها.
في إسرائيل البعض صعق، والآخر صدم، وفوجئ الباقي، وما زالوا يبحثون عن تفسير لهذه الهزة الارتجاجية الغاضبة. كان قادة المشروع الصهيوني وقعوا في سوء تقديرات قاتلة، واستمر قادة إسرائيل في ارتكاب هذه الأخطاء القاتلة.
أكبر هذه الأخطاء هو الاعتقاد الراسخ لديهم بأن القوة كفيلة بحسم الصراع، وأن «التفوق» في كل المجالات، وخصوصاً العسكري هو القول الفصل في هذا الصراع.
لكن المقولة الأهم التي اعتمدها معظم القادة الجدد في إسرائيل هي مقولة «كي الوعي الفلسطيني» مروراً «بتنزيل» سقف التوقعات الفلسطينية، وصولاً إلى نسف المشروع التحرري وفرض المشروع الصهيوني عليهم.
عودوا معي إلى عدة شهور فقط لنعرف وندرك مدى «إيمان» قادة إسرائيل الحاليين بهذه المقولات، وبمدى اطمئنانهم إليها.
الهزّة الارتجاجية التي أحدثتها الروح الفلسطينية الجديدة، والتي قامت من تحت أنقاض وحطام الحالة الوطنية التي نتجت عن الانقسام والاحتراب السياسي المتواصل، وعن تبعات الانهيار العربي وعن ارتهان الإقليم للترامبية والتوحش اليميني في الولايات المتحدة، وعن غياب التوازن المطلوب في منظومة العلاقات الدولية كلها... هذه الحالة قامت فعلاً من تحت كل هذه الأنقاض، ومن بين هذا الحطام والركام لتصنع شيئاً جديداً، شيئاً ما بين الإعجاز والمعجزة، شيئاً من تحطيم القيود وتجاوز كل الصعاب، شيئاً من تحويل الحالة الوطنية إلى حالة «فدائية»، وإلى فعل إقدام لا ينظر إلى الخلف إلا لقياس بعدها عن ذلك الواقع المرّ وإلى سرعة الوصول إلى مشارف عهد جديد.
وبالفعل فقد تمت عملية جبارة من كيّ الوعي، وبالفعل فقد تقلّص حجم التوقعات ولكن لدى إسرائيل هذه المرة، ولدى قادة إسرائيل قبل غيرهم.
إنها مرحلة كيّ الوعي الإسرائيلي وإجباره، إن لم يكن اليوم فغداً على إجراء تخفيضات كبيرة وسريعة في سقف توقعاته.
الروح الفلسطينية الجديدة بدّدت في غضون أيام ما «راكمه» اليمين الإسرائيلي في عقدين كاملين، وهزّت بقوة أركاناً ارتكازية في المشروع الصهيوني، وغيرت في شروط اللعبة من أساسها.
روح جديدة تثبت للمرة الألف أن شعباً كهذا الشعب لا يكل ولا يملّ، وأنه يخبو أحياناً ولكنه لا يستكين، ويصبر كثيراً ولكنه يعرف كل شروط الغضب، وعلى قياداته كلها أن تفهم العبرة جيداً.
وإذا كان الوضع الجديد قد أدى إلى كل هذه المتغيرات الهائلة فإن الخوف كل الخوف ألا تكون بعض القيادات على مستوى المسؤولية الوطنية، وأن لا تعي شروط اللحظة التاريخية، أو أن تحاول الاستثمار في هذه الحالة الوطنية للأهداف الخاصة، أو حتى حرف الحالة الوطنية كلها باتجاه معادلات تاريخية خطرة.
هناك من المؤشرات ما يكفي أن ثمة من يريد، ومن هو مستعد لحرف المسار عن طريق الوحدة والتلاحم والالتحام، وهناك من يريد أن يُدخلنا من جديد في لعبة الانقسام البغيضة، وهناك للأسف من بدأ بالخطاب الانقسامي الجديد. وحول هذه الأخطار بالذات لا بدّ من عودة.