الأيام الأخيرة، ولا سيما إجازة عيد الأسابيع، منحتنا وفرة من الزمن كي نتمكن من مراجعة جولة الحرب مع «حماس»، كما انعكست في البث التلفزيوني المتنوع. وبالفعل تلقينا وفرة من الفرضيات الاساس. المفاهيم، توصيفات الوضع، التحليلات عن انجازات الحاضر، توقعات عن المستقبل وتحليلات، ويمكن تصنيف موقف الجمهور بعمومه، بما في ذلك سلطات الدولة وقوات الأمن، الى ثلاث مجموعات تفكير اساسية. المجموعة الاولى ادعت، منذ ايام القتال الاولى، بأن لا معنى حقيقيا لاستمرار هجمات الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة وفي مدينة غزة نفسها. برأيهم استنفدنا بنك الأهداف. ولاستمرار الغارات من الجو أو من البر لن تكون منفعة كبيرة، بل ستولد مخاطر مصيبة كبيرة من شأنها أن تقع في غزة ويحتمل في إسرائيل أيضا.
المجموعة الثانية كانت معنية باستمرار القتال، لمواصلة تدمير البنى التحتية والقوات القتالية التابعة لـ»حماس». ضربهم بشدة قدر الإمكان، لخلق الردع ولضمان الا تكون الجولة القتالية القادمة إلا بعد مسافة بضع سنوات اخرى.
المجموعتان بالطبع تتشاركان في الرأي بأنه بعد وقف القتال من المحظور السماح، مثلما سمحنا في الماضي، مباشرة أو بشكل غير مباشر لـ»حماس» أن تعزز قوتها. ومن المسموح الافتراض، بعد أن تعلمنا من تجربتنا، بأننا جميعنا بالتأكيد سنتبنى هذا الموقف.
كما توجد مجموعة ثالثة ايضا، اكثر حصرا، يمكن القول انه يتصدرها اساسا – ولكن ليس فقط – اللواء احتياط غيورا آيلند، والتي تعتقد بأنه في نهاية الجولة القتالية هذه علينا أن نسعى إلى تسوية سياسية. وهذا يعني توسيع اطار شروط وقف النار وبناء أفق سياسي يساهم في تحسين البنى التحتية وحياة المواطنين في غزة. وفي اطار كل هذا ثارت ايضا مسألتان اساسيتان مركزيتان: الاولى، هي غزة دولة قادرة على النظر في اهدافها كدولة ام هي مجرد اقليم مع مليوني مواطن تمنح مأوى لمنظمة «ارهابية»؟ والثانية، كيف ينبغي لإسرائيل أن ترد، وليس فقط في المستوى التصريحي، على اصابة الصواريخ في بلدات المحيط مقابل الاصابات في القدس او في مراكز البلاد؟ وثمة من ادعى أنه يوجد مجال للتمييز في تصميم الرد الإسرائيلي على ضربة في مركز البلاد أو في القدس أو مقابل الضربة في بلدات المحيط.
النقاش الأول حول تعريف قطاع غزة – يجدر أن ينقل إلى الأكاديمية في مجال العلوم السياسية. فلا يهم إذا كنا نعرف غزة كدولة أم لا. الواقع واضح للجميع وهو ما يهمنا. «حماس» هي منظمة «ارهابية» تسيطر على دولة فجة. تسيطر سيطرة كاملة في كل المجالات الارضية والتحت ارضية. تسيطر على سكان من مليوني نسمة، مخولة بجباية الضرائب، ويمكنها ان تجند قوى بشرية، وقادرة على أن تربط كل مقدرات غزة بأهدافها القتالية.
وبالتأكيد اصابة الصواريخ للبلدات الجانبية مساوية لإصابة الصواريخ في القدس. ومجرد النقاش في المسألة يدل على اخفاق فكري متواصل أملى الطريقة التي ادارت فيها إسرائيل حتى اليوم صراعها ضد «حماس».
كل اصابة لصاروخ في بلدة جانبية تمس بمبدأ سيادة إسرائيل في الاراضي المحددة كأراضي دولة. وانعدام الرد أو الاحتواء لعدد قليل من الصواريخ في البلدات الجانبية على مدى فترة طويلة هو الذي ادى إلى تعاظم قوة «حماس» حتى اليوم، ونأمل جدا أن نكون تعلمنا الدرس.
في حقيقة الامر لا يوجد لإسرائيل اليوم خيار حقيقي غير السعي إلى تسوية سياسية شاملة مع «حماس» وغزة. فنحن لا نعتزم احتلال قطاع غزة من جديد والوقوف في وجه «إرهاب» فتاك من نوع آخر، ولكنه خطير بقدر لا يقل، مثلما كان في جنوب لبنان.
صحيح أنه سيكون من الصعب الوصول إلى تسوية سياسية، فلـ»حماس» مصلحة في مجال صورتها ومكانتها في العالم العربي كله. وهذه الاعتبارات فائقة بالنسبة لها مقارنة بتدمير المنازل، خراب البنى التحتية، والضحايا بالارواح.
وفي كل الاحوال، على إسرائيل أن تعلن اليوم خطة سياسية بموجبها مقابل نزع سلاح «حماس» ستكون مستعدة لتساهم في بناء البنى التحتية لقطاع غزة، وتحسين الخدمات الصحية، ورفع مستوى المعيشة، وتطوير مناطق صناعية وتجارية وكذا خلق اماكن عمل، وهذا سيبدو في البداية كالمدينة الفاضلة. ولكن هذا بالضبط هو الهدف الذي نريد الوصول اليه. اذا ما واظبنا على هذه الرسالة بوضوح وثبات، فستتغلغل في ارجاء العالم وكذا داخل سكان غزة نفسها. كما أنها ستسهل علينا ادارة الصراعات الاخرى اذا ما لزم الامر.
إن مكافحة «الإرهاب» عن طريق جولات قتالية ضد «حماس» من أجل الوصول إلى الردع فقط فشل حتى اليوم، ومن المتوقع أن يفشل في المستقبل أيضاً. ستكون مسافات زمنية بين الجولات القتالية مهما كانت طويلة.
عن «معاريف»
استشهاد أخصائي العظام الوحيد في شمال قطاع غزة سعيد جودة
12 ديسمبر 2024