قلنا في مقالة الثلاثاء الماضي إن الحدث الفلسطيني «يَكتب» نفسه بقدر ما «يُكتب» بوصفه لحظة تنفتح على تأويلات كثيرة.
وتناولنا جانباً واحداً يفسر النشوة الوطنية التي اجتاحت الفلسطينيين. ويعنينا، اليوم، التفكير في الدلالة الإسرائيلية للحدث، وما يلي يصلح كترجمة، أيضاً، لحدث «يكتب» نفسه، ولن يتوقف، بالتأكيد، في وقت قريب.
وتستوقفنا، في هذا الشأن، نقطة تكاد تحظى بإجماع غالبية المراقبين من عرب وعجم. أعني إجماع الغالبية، وإن اختلفت المبررات والتأويلات، على أن جولة الحرب الأخيرة على غزة لن تكون الأخيرة، وأنها محاولة من جانب نتنياهو لخلط الأوراق بعد فشله في تشكيل الحكومة، وأنه لا يريد القضاء على «حماس» بل تلقينها درساً في الردع، وأن عودة الكلام، في الإقليم والعالم، عن إحياء «عملية السلام» لا يعدو كونه نفخاً في قربة مقطوعة.
نجد الجامع بين كل ما تقدّم في التعبير الفرنسي Déjà vu (رأينا هذا من قبل). ويصح إضافة (وما سنراه لاحقاً). ولكن، ما معنى هذا، ولماذا لا يكف هذا الفصل الدامي، الذي أصبح معروفاً ومألوفاً، في تاريخ الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي عن تكرار نفسه؟
ولا أجد، في معرض البحث عن جواب، أفضل من خلاصة خرج بها عالم الاجتماع الإسرائيلي، غيرشون شافير، في كتاب بعنوان «نصف قرن من الاحتلال: إسرائيل، فلسطين، وأكثر الصراعات استعصاءً على الحل في العالم» (2017) صدر بمناسبة مرور نصف قرن على احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة. وخلاصته: «استمر الاحتلال نتيجة إحساس صنّاع السياسة الإسرائيلية بأن مشروع الدولة لم يكتمل».
وهذه خلاصة ثمينة إلى حد بعيد لا بقدر ما تفسّر ديمومة الاحتلال وحسب، ولكن بقدر ما تُحرّض على التفكير في معنى مشروع الدولة الإسرائيلية، أيضاً. وقد أصبح من الشائع والمُتداول في الأوساط الأكاديمية، وحتى في وسائل إعلام ليست يسارية، بالضرورة، الكلام عن مشروع الدولة، ودولة المشروع، بوصفهما نوعاً متأخراً من فصيلة الاستعمار الاستيطاني الأوروبي، الذي عرفته شعوب وقارات مختلفة في قرون مضت.
وفي سياق كهذا، ثمة ضرورة مُلحّة لطرح أسئلة من نوع: متى وكيف وبماذا يكتمل مشروع الدولة، ومتى يدرك أصحابه أنه اكتمل؟ والواقع أن هذا النوع من الأسئلة كان محط نقاشات سياسية وأيديولوجية، حامية الوطيس، بين المستوطنين الأوائل منذ أواخر القرن التاسع عشر، ويمكن العثور على تجلياته، على مدار تاريخ الدولة الإسرائيلية، حتى يوم الناس هذا، فيما تثير قضايا كالحدود، والموقف من الفلسطينيين، والعلاقة بالعالم العربي، من عواطف سياسية مشبوبة، وصراعات أيديولوجية. ولا فرق، هنا، بين يمين الصهيونية، ويسارها، في حالات كثيرة، إلا بقدر ما يتعلّق الأمر بالصياغة واللغة والأولويات.
ولا ضرورة، هنا، للاستطراد في سرد تفاصيل كثيرة. المهم، أن فكرة «الجدار الحديدي»، التي طرحها جابوتنسكي، الأب الروحي لليمين الصهيوني، في أوائل عشرينيات القرن الماضي، تنفي كل احتمال للتفاوض مع «العرب» قبل هزيمتهم وإرغامهم على قبول الدولة اليهودية بقوّة السلاح.
بالمناسبة، لم يخجل المذكور من الطبيعة الاستعمارية لمشروع الدولة، بل كان فخوراً بها. وقد أنكر وجود هوية قومية ناضجة لدى «العرب» في فلسطين، و»تكرم» عليهم معترفاً بوجود قومية بدائية ستكون دافعهم لمقاومة المشروع ودولته.
ويمكن لكل ذي عينين أن يرى، منذ معاهدة الصلح مع مصر، واتفاقات أوسلو، أن «الجدار الحديدي» كان نبوءة صدقت، بطريقة مأساوية، عندما انسحبت مصر طواعية من زعامتها للعالم العربي، وقبل الفلسطينيون بالتفاوض على 22 بالمائة من وطنهم التاريخي، وهزلية تماماً في كوميديا «سلام إبراهيم» الترامبية السوداء.
ومع ذلك، يحق لكل ذي عينين ملاحظة أن الإسرائيليين يزدادون تصلّباً كلما أصبح «العرب» أكثر «ليونة»، منذ بداية «حركة أرض إسرائيل الكبرى» بعد العام 1967، التي تعاظمت بعد معاهدة السلام مع مصر، ووصولاً إلى الهجوم الاستيطاني الكاسح في القدس والضفة الغربية، بعد أوسلو، ناهيك عن صعود موجة اليمين الديني والقومي في المجتمع والدولة الإسرائيليين.
ويحق لكل ذي عينين أن يرى، أيضاً، أن هذا التصلّب يترافق مع تعاظم القوة العسكرية والاقتصادية، والصعود إلى موقع القوّة الإقليمية، خاصة في العقد الأخير، بعد انهيار الحواضر العربية، والعلاقة الغرامية، في السر والعلن، مع بعض العرب.
وعلاوة عليه، لم يعد الصراع مع الفلسطينيين أولوية كما يدل استطلاع للرأي في الآونة الأخيرة، فعلى سلّم يتكون من ثماني درجات جاء الصراع مع الفلسطينيين في المرتبة السابعة. كما أن قرابة الثلثين من الإسرائيليين لا تعتقد أن الضفة الغربية محتلة. والواقع أن أربع جولات انتخابية متلاحقة تدل على ما تقدّم إذا عدنا إلى طبيعة النقاشات والصراعات السياسية التي وسمت أربع جولات انتخابية عاشها الإسرائيليون في آخر عامين.
وبالعودة إلى خلاصة شافير بشأن مشروع الدولة الذي لم يكتمل، فإن في وجود السيناريو المألوف والمعروف، الذي لا يكف عن تكرار نفسه (إضافة إلى نظام الأبارتهايد الذي سيأتي عليه الدور في معالجة لاحقة) ما يُحرّض على التفكير خارج الصندوق، كما يُقال: ماذا لو افترضنا أن مشروع الدولة نفسها غير مرشح للاكتمال لأسباب وجودية؟ وماذا لو افترضنا أن المشكلة ليست في الحدود، ولا في «العرب»، بل في الفلسطينيين ومعهم، أي في وجودهم الفيزيائي، بصرف النظر عمّا في حوزتهم من الأرض؟ هذا موضوع نقاشنا بعد أسبوع.
الاحتلال يكرر تهديداته ويطالب الفلسطينيين بغزة النزوح جنوبا
14 أكتوبر 2023