صدر قبل يومين تقرير عن وزارة الزراعة في قطاع غزة، يشير الى ان القصف الإسرائيلي خلال أيام العدوان الأخير، لمخازن زراعية في شمال القطاع أدى الى تسرب مئات الأطنان من المواد الكيميائية المستخدمة في الزراعة الى التربة المحيطة ومن ثم احتمال وصولها الى المياه الجوفية، وهذه المواد الكيميائية تشمل أسمدة ومبيدات ومواد بلاستيكية قد تتحلل الى مواد كيميائية أخرى.
ويشير التقرير الى احتواء المخازن التي تم قصفها ومن ثم احتراقها اكثر من 2000 طن من الأسمدة والمبيدات الكيميائية المختلفة، وهذه كمية ضخمة من مواد كيميائية سامة وبالتحديد المبيدات التي تهدف الى القضاء على الآفات، قد تلوث الهواء والتربة والطعام، والخطورة الأشد بالنسبة للمبيدات هو تسربها من خلال حبيبات التربة الخفيفة الرملية في قطاع غزة الى المياه الجوفية وبالتالي بقاؤها فيها وتلويثها، تلك المياه التي تشكل أكثر من 95% من نسبة المياه في القطاع.
ومن خلال خبرتي في العمل على العديد من المشاريع خلال سنوات عديدة، سواء في بلادنا أو في الخارج، لتتبع انتقال ومن ثم ترسب بقايا مواد كيميائية ومن ضمنها مبيدات ومواد عضوية صناعية وأدوية ومضادات حيوية ومعادن وما الى ذلك، في النظام البيئي، ومن ضمن ذلك المياه، فإن احتمال وصول كمية لا بأس بها من المواد التي تسربت نتيجة القصف الإسرائيلي الى المياه الجوفية، هو احتمال كبير، يتطلب إعطاء الأمر الأولوية على الصعيد الرسمي الفلسطيني، وكذلل على صعيد تدخل المنظمات الدولية والمحلية ذات العلاقة أو التخصص في هذا الموضوع، وبشكل سريع وطارئ.
ومن المعروف أنه وقبل العدوان الأخير، فإن وضع المياه في القطاع من حيث النوعية أو الجودة غير مقبول حسب المعايير الدولية، ومعروف كذلك ان المصادر الطبيعية الفلسطينية، وبالأخص في غزة ليست بالحال الأفضل، سواء أكانت المياه الجوفية، او التربة، او تلوث مياه البحر، أو الحيز الجغرافي من حيث انتشار النفايات الصلبة والمياه العادمة، وكذلك ضعف او غياب القوانين البيئية الملزمة وضعف التوعية البيئية الكفيلة لإيلاء البيئة في غزة الاهتمام الكافي.
لقد أشارت نتائج دراسات، ومنها تقارير دولية الى ان اكثر من 90% من المياه في غزة هي مياه ملوثة، ولا تصلح للاستخدام البشري حسب المعايير الدولية، وتتلوث المياه في غزة بالمواد الكيميائية، سواء الناتجة من المياه العادمة، او من المبيدات والأسمدة الكيميائية، او من مشتقات البلاستيك والمواد الصناعية الأخرى، ومن ثم تتسرب من خلال التربة الرملية الى مصادر المياه الجوفية، وبعد الحرب الأخيرة، يمكن تصور الكميات الكيميائية الهائلة التي تمت إضافتها كذلك الى التربة من بقايا المواد المتفجرة، وبالتالي احتمالات وصولها الى مصادر المياه، ومن ثم زيادة الوضع سوءا بالمقارنة ما كان عليه قبل الحرب.
فالتلوث الكيميائي للمياه وبالأخص الجوفية، مصادره متعددة ومتنوعة، وتتراوح من تلك الناتجة من فضلات المصانع أو المواد الكيميائية الناتجة عن الاستخدام الزراعي للمبيدات والأسمدة، وكذلك استخدام المواد الكيميائية في مجال الثروة الحيوانية، حيث يؤدي تراكم هذه المخلفات بالبيئة المحيطة بتلك النشاطات ومن ثم نزولها إلى طبقات التربة الدنيا وبالتالي المياه الجوفية، واحتمالات انتقالها إلى مواد أكثر سمية وخطورة على صحة الإنسان حين تستخدم المياه للشرب، وكذلك تأثيرها السلبي على المزروعات حين تستخدم في الري.
ومن ضمن المواد الكيميائية المسببة للتلوث، المركبات العضوية مثل مواد الـــ»ديوكسين»، والمركبات العضوية الحلقية وهي مواد سامة وسببت كوارث في مناطق مختلفة في العالم، وكذلك مبيدات الحشرات، ومبيدات الأعشاب وخاصة حين تُستخدم كخليط مع التربة فإن احتمالات نزولها إلى المياه الجوفية هو كبير، وكذلك المركبات غير العضوية والمعادن مثل الزئبق، الكادميوم، والكروم وهي عناصر خطيرة ولها مضاعفات على صحة الإنسان والأجنة.
وتسرب المبيدات الى المياه الجوفية إذا حدث في قطاع غزه، يعتبر أمرا خطيرا، حيث إن المبيدات هي مواد كيميائية سامة يتم تصنيعها في المختبرات ومصانع الشركات، وان تمت إساءة الاستعمال، تؤدي إلى آثار صحية وخيمة منها الوفاة، ورغم ذلك فإن المبيدات ما زالت تستعمل على مستوى العالم، في الزراعة سواء لمكافحة الحشرات أو الأعشاب أو الفطريات في الحقل أو لمكافحة الحشرات في حظائر الحيوانات أو في مجال الصحة العامة في داخل البيوت وفي الشوارع والحدائق، وأن هناك شركات عملاقة تقوم بإجراء الأبحاث وتنتج وتوزع المبيدات في أسواق العالم المختلفة.
وكذلك تكمن خطورة بقايا المبيدات في المياه الجوفية، التي بشكل أو بآخر قد تصل إلينا، ليس في سميتها الآنية من تسمم وأعراض واضحة، ولكن في تراكمها بكميات قليلة في الأجسام وبالتالي آثارها بعيدة المدى، فهناك أبحاث ودراسات قديمة وجديدة من مناطق مختلفة في العالم، تبين أن هناك علاقة بين كثافة استخدام المبيدات الكيميائية، أو بين استخدام أنواع معينة من المبيدات وبين انتشار أمراض غير سارية في تلك المناطق، وبالأخص أمراض السرطان بأنواعها. وكذلك عن علاقة بقايا المبيدات مع أمراض عصبية وتشوهات خلقية عند الأجنة والنساء الحوامل وأمراض لها علاقة بتغييرات هرمونية ينتج عنها ضعف النمو وتشوهات متعددة، حيث تشير تقارير وزارة الصحة الفلسطينية الى التصاعد الكبير في نسبة الإصابة بالأمراض السرطانية، والتي تشير الى ان الأمراض السرطانية باتت تشكل المسبب الثاني للوفاة في فلسطين، وحتى ان بعض الدراسات العالمية أشارت الى تزايد حالات السرطان في المناطق الزراعية المكثفة.
وفي ظل هذه التقارير عن احتمال تسرب مواد كيميائية الى المياه الجوفية في قطاع غزة، التي تستخدم للزراعة وللشرب، فإنه وان كان وضع المياه في قطاع غزة، قبل بدء الحرب، وضعا غير مقبول صحيا وبيئيا وحسب المعايير الدولية، فإن يمكن تصور الكارثة البيئية القادمة بعد وصول مئات الآلاف من المواد الكيميائية الى النظام البيئي في غزة خلال هذا العدوان.
ولذا فإننا سنكون الأحوج الى اعتبار نوعية أو جودة المياه في غزة من الأولويات الوطنية، سواء أكان ذلك من قبل الجهات الرسمية او من قبل المنظمات المحلية والدولية الفاعلة، وبالأخص العمل لإجراء مراقبة دورية وتحليل روتيني لجودة المياه من الناحية الكيميائية لتحديد مدى ودرجة تلوثها، وبالتحديد من آبار المياه الجوفية في شمال القطاع، حيث حدث تسرب المبيدات والأسمدة ومواد كيميائية أخرى.