مناقشة صريحة لمضاعفات الحرب على غزة

حجم الخط

بقلم:المحامي زياد أبو زياد

 

كانت أحداث القدس هي الشرارة التي أشعلت الحرب على غزة مع أن كل المعطيات التي كانت على الساحة تفيد بأن توجيه الضربة للمقاومة في غزة كانت أمرا ً متوقعا ً في كل لحظة سواء من تصريحات العسكريين وخبراء الأمن على الجانب الاسرائيلي ، أو التراشق الخفيف بالصواريخ الذي سبق الحرب والذي يعبر عن الأزمة العميقة والضجر من الحصار الخانق المفروض على شعبنا في القطاع. فبينما كانت اسرائيل تحاول توجيه ضربة لحماس تعيدها بضع سنوات للوراء كانت حماس تضيق ذرعا بالحصار وترفض أن يتحول الوضع الى أمر واقع وتسعى لتحريك المياه الراكدة.
القدس في عين الشمس
ومع الإقرار بأن القدس هي في قلب حسابات المقاومة تماما كما هي في قلب حسابات كل وطني فلسطيني أو مؤمن مسلما كان أو مسيحيا إلا أن حماس أحسنت التقاط اللحظة ووضع القدس في عين الشمس وعنوانا ً للمعركة ، سواء في بعدها الديني من خلال ما يحدث في المسجد الأقصى من اقتحامات ومحاولات لفرض واقع تهويدي عليه ، أو في بعدها الوطني من خلال الهبة لنصرة أهلنا في حي الشيخ جراح وحي سلوان والوقوف الى جانبهم ضد محاولات الاقتلاع والترحيل من بيوتهم من خلال نكبة تتكرر على شعبنا دون توقف منذ عام 1948 حتى اليوم.
فقد جاء التصعيد من غزة بعد انذار مباشر وتحديد مهلة زمنية محددة وتم تنفيذه في نهاية تلك المدة وبما يؤكد أن الذي وجهه لم يكن يناور أو يلعب بالأعصاب.
وقد جاء الرد الإسرائيلي قاسيا ً ومدمرا ً ولكن نتائج الحروب لا تُقاس بالخسائر المادية أو البشرية وإنما بما حققته من هدف سياسي ذلك لأنه لا توجد حرب من أجل الحرب وإنما حرب من أجل تحقيق هدف سياسي استراتيجي.
ولما كان الأمر هو كذلك فإن بالاستطاعة القول بأن حماس ومعها كل فصائل المقاومة الفاعلة على الأرض ، وليس تلك التي اعتزلت المقاومة وبقيت تعيش على أمجاد الماضي، قد ألزمت نفسها بالوقوف بالمرصاد لحماية القدس بكل مكوناتها الدينية والوطنية. وهذا هو التحدي الذي يواجهها والذي يضعها في موقع متقدم على كل من اكتفوا بالعمل ضمن إطار الاستغاثة بما يسمى بالشرعية الدولية والاكتفاء بعبارات الشجب والاستنكار وتحميل اسرائيل بالقول مسؤولية ذلك.
لقد نجحت حماس في وضع القدس وبقوة على رأس جدول أعمال المنطقة وجدول أعمال كل من يعنيه استقرار وأمن المنطقة ، كما أن وحشية الحرب على غزة واستهدافها للمدنيين والمنشئات المدنية قد أعادت القضية برمتها الى رأس أولويات الدول الرسمية والمجتمع الدولي كما استنهضت معنويات وإردة الشعوب العربية وأخرجتها الى الشوارع نصرة للشعب الفلسطيني رغم تخاذل حكام بعضها.
ولكي تبقى القدس على رأس جدول أعمال المنطقة ولتجنيب المنطقة جولات أخرى من الصراع والدمار والخسائر البشرية والمادية فإن المطلوب هو أن لا يبقى العبء على كاهل المقاومة لوحدها وإنما على الدول والشعوب الاسلامية عربية وغير عربية وقوى الحق والعدل والسلام في العالم أن تتحمل مسؤولياتها الى جانب المقاومة في الحفاظ على القدس وعلى المكتسبات السياسية التي حققتها الحرب الأخيرة على غزة ، وإلا فكل تلك التضحيات ستذروها الرياح. ولا شك بأن هذا المطلب يتطلب استمرار الجهود المكثفة للحفاظ على الزخم الجماهيري واستمرارية العمل السياسي العربي والدولي وصولا الى تحقيقه.
وفي هذا السياق وبالرغم من تعقيدات الوضع وتشعباته إلا أنه لا بد من ملاحظتين أوليتين أحدهما تتعلق بإسرائيل والثانية بالقيادة الفلسطينية الرسمية في رام الله.
الفاشية العنصرية في القرار الرسمي
أما ما يتعلق بإسرائيل فإن علينا أن نأخذ بالحسبان حقيقة أن العناصر الفاشية العنصرية المتطرفة ، التي كان الإسرائيليون أنفسهم يحاربونها ويتبرأون منها في يوم من الأيام ، أصبحت اليوم جزءا من الشرعية الإسرائيلية الرسمية الحاكمة وأصبحت لها امتداداتها داخل أجهزة وأذرع الحكم بما في ذلك أجهزة الأمن والشرطة والقضاء والنيابة والجيش ، ولذا فليس من المتوقع أن تستجيب الحكومة الإسرائيلية الواقعة تحت تأثير هذه العناصر بسهولة لنداء العقل والمنطق بل إنها وتحت تأثير هذه العناصر ستستمر في غيها وجرها المنطقة الى مزيد من العنف الدموي ما لم تر وقفة جدية حازمة من المجتمع الدولي ومن العرب ، ومن عزم وتصميم المقاومة على تنفيذ ما التزمت به أمام شعبها والذي من أجله كانت هذه الهبة الجماهيرية التي اصطفت الى جانب خيار المقاومة في كل أرجاء الوطن والشتات والتي لقيت صدى وتأييدا وتعاطفا في كل أنحاء العالم يتمثل بتلك المظاهرات والندوات والمؤتمرات والأنشطة التي هزّ وجدانها رؤية دفن المدنيين أطفالا ً ونساء ً وشيوخا ً أحياء ً تحت الأنقاض ، فقامت ترفع صوتها عاليا ً وبشكل غير مسبوق تطالب بالعدل والحرية للشعب الفلسطيني ولفلسطين.
استحواذ حماس على إرث المقاومة
وأما الملاحظة المتعلقة بالقيادة الفلسطينية الرسمية في رام الله فقد أخفقت في أن تواكب الأحداث أو تكون جزءا ً منها وتركت الساحة لحماس وحدها لتستحوذ على عواطف الجماهير. وحين أقول بأنها أخفقت في أن تكون جزءا من الأحداث فهذا لا يعني أنني كنت أتوقع منها أن تنضم الى القتال فهذا هو آخر شيء يمكن أن يفكر فيه كل إنسان عاقل أو مسؤول لا سيما ونحن لم نتعاف بعد من مضاعفات الانتفاضة الثانية التي كانت لها آثار مدمرة على برنامجنا الوطني قد لا نتعافى منها على مدى عقود. ولكني أعني التفاعل السياسي والإعلامي والجماهيري والكون جزءا ً من إيقاع الشارع لا الوقوف ضده وقمعه بقسوة تفوق كل منطق.
لقد تميزت الحرب الأخيرة على قطاع غزة بأنها أعادت الأمل الى نفوس الجماهير وخاصة بالقدس بأن هناك من يهتم بها ومستعد للقتال من أجل حمايتها والدفاع عنها. واستطاعت حماس استغلال هذا المشهد ليس فقط للظهور بمظهر الند الأقوى المنافس لحركة فتح وإنما محاولة الاستحواذ على الإرث الشرعي للنهج النضالي الذي كانت فتح تقوده باعتبارها رأس الحربة منذ انطلاقتها عام 1965 ، وهذا ما خطر ببالي وأنا أستمع للأخ يحي السنوار رئيس حركة حماس وهو يخطب أمام الجماهير الملتهبة في خان يونس ويقول بأنه ” لو كان القائد الشهيد خليل الوزير حيا ً لكان هنا يقاتل معنا في صفوف المقاومة “.. ويمجد الشهيد القائد أبو عمار ويردد مع الجماهير من حوله مقولة أبو عمار الخالدة.. ” للقدس رايحين شهداء بالملايين”. والذي يربط هذه الهتافات بهتافات جماهير فتح برام الله تحية لأبي عبيدة والقسام يخلص الى الاستتناج بأن هناك فجوة تتسع باستمرار بين القيادة الرسمية لحركة فتح أو حركة فتح الرسمية والجماهير الفتحاوية أو فتح الجماهير التي كانت دائما ولا تزال تمثل روح المقاومة والإصرار على نيل الحرية من خلال دحر الاحتلال والتي باتت كوادرها تشعر اليوم أنها أقرب الى نهج المقاومة منه الى نهج العمل الدبلوماسي غير ملموس النتائج.
واخيرا ً فإنه لا يمكن اختزال المشهد اليوم بالحديث عن إعادة إعمار غزة ولا عن تخفيف الحصار المفروض عليها ولا عن الكهرباء أو مواد البناء أو حقائب الدولارات ولا المطالبة بالتحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبت وإنما في كيفية وضع نهاية لهذه الحلقة المفرغة vicious circle من دوامة العنف والعنف المقابل. فما شهدناه عام 2021 هو نفس ما شهدناه في 2006 و2007 و2008 و 2012 و2014 و 2021 ولا نريد أن نشهده بعد أعوام قليلة قادمة. فقد أثبتت غزة أن روح الشعب لا تُقهر وأنه إذا ما أصر شعب على نيل حريته وسعى لها فإنه لن تستطيع كل آلات القمع والقتل أن تمنعه من ذلك ، ومن أجل انتصار الشعب لا بد أن تتوحد كل قواه وتكون في بوتقة واحدة وعلى مستوى التحدي المصيري الذي يواجهه على طول الأرض الفلسطينية المحتلة بما في ذلك القدس وليس فقط في قطاع غزة.