إذا تكلّلت مساعي تشكيل حكومة إسرائيلية جديدة، وثبت بالوجه «الشرعي» إزاحة نتنياهو و»قبعه» عن كرسي رئاسة الوزراء في إسرائيل، يصبح سؤال «المليون»: كيف ستكون اسرائيل الدولة، واسرائيل مؤسسة الحكم، واسرائيل الحالة الشعبية فيها بعد نتنياهو أو بدونه؟
ما الذي يمكن أن يتغير جوهرياً في سياسات الدولة، وسياسات الحكومة الجديدة، وما الذي يمكن ان يحدث في سياق المواقف الجماهيرية من قضايا داخلية وخارجية طالما ان سياسات الدولة تبدو ثابتة ومستقرة، وطالما ان هذه الحكومة بأغلبيتها تنتمي الى اقصى اليمين (بنيت وليبرمان وساعر)، وطالما أن يمين الوسط يمثل ثقلاً مركزياً فيها (غانتس ولابيد)، وطالما ان ما يسمى باليسار لا يمثل في الواقع سوى اقلية، بالرغم من انها اقلية مرجحة ويمكنها ان تلعب دورا اكبر بكثير من حجمها الحقيقي؟
في الواقع هناك فرق، وفارق جدي فيما يتعلق بالوضع الداخلي تحديداً.
لا يمكن عدم ملاحظة الفرق الذي سيكون عليه القضاء، بكل ما لقضية القضاء من أهمية. في دولة كإسرائيل، وبعد أن تم «تدمير» منظم لكامل منظومة القضاء لجهة التلاعب المفضوح في التعيينات والمحسوبيات السياسية، ولجهة آليات شراء الذمم، ووصولاً الى الابتزازات من كل لون وصنف، كما أن بعض الميزانيات (الاجتماعية) ستتغير حتماً في ضوء التخلص ولو قليلاً من بعض هذه الميزانيات التي كانت في بعض مظاهرها اقرب الى الرشاوي منها الى أي شيء آخر، وخصوصا تلك التي كانت «تنهبها» الاحزاب الدينية.
كما يمكن ان تطال الفروقات بين الحكومة الجديدة والحكومات التي سبقت على مدار اكثر من عقد كامل بعض «التوجهات» في مجال السياسات الاقتصادية، وخصوصاً تلك التي امعنت في آليات التوحش الذي ميّز كامل حقبة الانفلات الذي شهده العالم من بؤر الليبرالية الجديدة.
لكن هذه الحكومة إن شكلت، لن تتمكن ان تذهب ابعد من ذلك ابداً، وهي ستكون الحكومة الأولى في تاريخ اسرائيل منذ قيامها، التي تتجنب الخوض في الشأن السياسي العام، وفي شأن التسوية السياسية، وهي ستجمد كل خوض في هذا المجال، لأن من شأن أي برنامج سياسي لها ان يفجرها في أية لحظة.
هذه الحكومة موجودة في مركز او موقع سياسي عنوانه: هذه حكومة تشكلت من احزاب وقوى سياسية لإسقاط نتيناهو، وليس لها اي علاقة بالشأن السياسي ولن يكون.
لا يمكن لهذه الحكومة ان تقدم على «الضم»، كما لا يمكنها تجميد الاستيطان، وليس بمقدورها المواقف على مناقشة قضية القدس، ولكنها لن تصطدم بالمجتمع الدولي، وهي تتفهم الموقف الأميركي، ولا تعارض بشدة المواقف الاوروبية ولكنها لا تتبناها، وهي ضد افتعال الازمات مع السلطة الوطنية، ولكنها لا ترى فيها شريكاً سياسياً، وهي ستتوقف عن اللعب بالنار في علاقات اسرائيل بدول الاقليم، وستراعي بكل تأكيد بعض الحساسيات الضرورية، وخصوصاً الأزمة التي نتشبت مع الأردن، وكذلك مع مصر، وقد تذهب هذه الحكومة لأسباب تكتيكية محاولة التخفيف من بعض مظاهر الاستفزاز الفاقعة في القدس أو غيرها، لكن كل هذا سيكون في أضيق الحدود، ولن يشكل سياسة معينة وإنما سلوكيات للتعامل اليومي مع الاحداث وليس سياسات او برامج سياسية للحكومة. وستكون هذه السلوكيات خاضعة للاعتبارات الداخلية أكثر مما هي خاضعة للاعتبارات الاقليمية والدولية، في ضوء ارتفاع منسوب التوقعات بحملات سيقوم بها المستوطنون، وفي ضوء زيادة حدة الاستقطاب بين اليمين من خارج الحكومة وبين اليمين «الخائن» الذي «رضي وارتضى» الجلوس في حكومة «يسار» كما يعلن نتنياهو، وكما يركز كامل دعايته السياسية في هذا المجال.
إذا كان من اهمية تذكر لهذه الحكومة فهي اولاً وعاشراً تتمثل في ابعاد نتنياهو وتركه لمصيره أمام المحاكم، او البحث عن إنهاء «مشرّف» لمشواره السياسي خارج السجون.
وإذا كان من اهمية اخرى لهكذا حكومة اذا شكلت فهي انها رسّمت عدم قدرة اليمين الاسرائيلي على الاصطفاف في جبهة واحدة، وتحوّل الخلاف داخل هذا المعسكر الى اتجاهات متباينة لن يكون سهلاً على أحد في كل اسرائيل اعادة لملمتها من جيدد، مما ينذر بتغييرات كبيرة في الخارطة الحزبية، وحتى السياسية في اسرائيل.
واذا كان من اهمية اضافية لهكذا حكومة فهي انها تقدم لنا الدليل القاطع على طبيعة الازمة السياسية في اسرائيل في العقد الأخير حاولت الحكومات الاسرائيلية ان تتجاهل العامل الفلسطيني، وفي نصفه الاخير تبنت نهج تصفية الحقوق الفلسطينية مستفيدة من الحقبة الترامبية، وفشلت فشلاً ذريعاً، واليوم لم تعد اي حكومة قادرة على فعل اي شيء، أو طرح اية مقاربات سياسية لأن مجرد «المس» بالمسألة الفلسطينية يعني تهاوي الحكومة في اليوم التالي، سواءً كان هذا المسّ سلباً او ايجاباً، ولن تتمكن اي حكومة في اسرائيل ان تلعب اي دور حقيقي في ظل ان برنامج الحكومة الوحيد هو ان لا يكون لها برنامج، والبرنامج الوحيد المسكوت عنه هو البرنامج الذي يتعلق بالشأن الفلسطيني.
هذه اللعبة لن تستمر طويلاً لأن اليمين المتطرف في اسرائيل والذي سيكون الجزء الأكبر منه في المعارضة سيخرج هذه الحكومة المجردة عن البرنامج السياسي، والتطورات الأخيرة، وخصوصاً الاخفاق الاسرائيلي العسكري في غزة والهزيمة السياسية المدوّية لإسرائيل اقليمياً ودولياً، وعودة القضية الفلسطينية الى الواجهة بما فيها، وتحديداً القدس ومستقبلها... ستضع حكومة البرنامج السياسي المسكوت عنه، والمتوافق على غيابه في وضع مضحك، وستبدو اسرائيل عاجزة ومشلوةل وبلا أي ثورة على المبادرة في كامل الحقل السياسي العام. وهكذا نعود الى ما كنا توقعناه قبل عدة شهور.
لا مجال لبقاء نتنياهو، ولا مجال لحكومة يمينية بوجوده. ليس قدراً أن يبقى الليكود صاحب القول الفصل في تشكيل الحكومة، وقد يتمكن اليمين والوسط وبعض اليسار من تشكيل الحكومة.
في حالة ان تمت هذه التوقعات فالحكومة ستكون مشلولة لأنه ليس بوسعها الا ان تكون حكومة بدون سياسة.
هذا ما يبدو انه يتحقق، وهو عنوان أزمة من نوع آخر، أزمة الهروب من الاستحقاق الفلسطيني، وهي ازمة ستكون طاحنة لأن العالم يضغط الآن ان لا مجال للهرب أكثر، ولا مجال للتهرب تحت أي ذريعة.
الجوهري هنا هو أن فلسطين هي الأزمة الحقيقية لإسرائيل.
قد يكون ان اسرائيل تمكنت من تجاهل فلسطين، وقد يكون ان اسرائيل استطاعت ان تهرب وتتهرّب، ولكنه طريق يبلغ نهايته الأكيدة الآن.
فلسطين ليست مجرد شرطاً لاستقرار إسرائيل، وإنما ـ وهذا هو الأهم ـ أصبحت شرطاً لخروجها من أزماتها، وربما تصبح شرطاً للتخلص من صهيونيتها، أيضاً، علماً أن البعض بات يرى أن فلسطين، ربما تكون شرطاً لبقائها نفسه.