فادي وشحة

صلاح هنية.jpg
حجم الخط

بقلم: صلاح هنية

لم يخرج آلاف من الناس طلاباً وعمالاً ونساء ومهنيين لوداع الشهيد "فادي وشحة "صدفةً، بل كان خروجاً نتيجة للتغيرات العميقة في المجتمع وفي الوعي الشعبي أن على الاحتلال ان يندحر وأن الشهداء والأسرى هم الذين يعبّدون هذا الطريق، انتهى عهد الشهداء أرقام، انقضى زمن الشهداء فخراً للتنظيمات السياسية، وجاء الوقت الذي تحتضن الجماهير الشهداء في حضنهم الدافئ وتعتذر منهم لأنهم رضوا لفترة أن يكونوا ارقاماً وحكراً لتنظيماتهم.
عدنا الى سنوات مضت سنوات الانتفاضة الأولى، حيث كان الشهداء ابناء الوطن، ابناء كل بيت وكل حي وكل مدينة وكل قرية، وبات "وشحة" كذلك، بكته العيون واحترقت القلوب ليس لشيء الا لأنه أسير وجريح ومطارد وطالب جامعي وقضى شهيداً.
ورغم تغيرات الوعي سيخرج وخرج علينا من رواد عهد ما قبل التغيرات العميقة. لقد بالغ المجتمع بالتعاطي بالأمر ولكنهم لم يستطيعوا أن يدركوا أن الأمر لم يخضع لمراسم وغيره، بل تدفقت الجماهير لتقف مع الشهيد في كل محطة من محطاته ليس مبالغة، وللمرة الاولى لم يبالغ الإعلام لأغراض حزبية أو غيره، بل كان يغطي حدثاً واقعاً على الأرض لا يمتلك القدرة على المبالغة به، فالمشهد ذاته وصل أقصاه ولا يحتاج الى مضخمات بالمطلق.
تلك فرصة تاريخية أن نراجع جميعاً أدواتنا وخطواتنا وأن نكون حريصين أن الناس باتت تتابع بعمق وحرص أكثر مما مضى، ولديها أدوات تقييم حادة غالباً ولكنها موضوعية عالية، ودعوكم ممن يركبون الموجة لإظهار انفسهم أنهم جزء من هذا التغيير، بل هم جزء مما مضى وليسوا ادوات ذات فاعلية في الحاضر بالمطلق، فالمتغيرات لا علاقة لها بالبحث عن شماعة، وليس لها اي علاقة بالأحكام التعسفية على الآخرين من عيار حمل قلم احمر للتصحيح للناس "كفى". تخرجت الجماهير من دائرتكم تلك، ولم يعد أحد يأبه باحتكار أحكام من مجموعة يسقطونها على آخرين بحكم انها مرجعيات. لا يا اصدقاءنا انتهى هذا العهد وستخضعون كلكم لمتغيرات الوعي والانتقال الشعبي من مرحلة لمرحلة، وتلك المرحلة لها معاييرها في مسائل احتكرت لفترة بمفاهيم مقاطعة المنتجات الإسرائيلية وحتى مفاهيم التطبيع وغيره.
لم تعد الدعوة لقيادة وطنية موحدة للاستهلاك الإعلامي وتمر مر الكرام، بل باتت هناك مساءلة ومحاسبة، ماذا فعلتَ ايها الداعي ودفعت باتجاهها؟ لم يعد بالإمكان ان لا نتوقف أمام قياس مدى نجاح اي جهة في تدخلاتها لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية، وهل هناك نتائج ام انها هبة من الهبات وكفى؟ لم يعد مجدياً ان نقول إننا رائدات في العمل الخيري وعند أول أزمة لم نستطع ان نصنع فرقاً.
في هذه المرحلة من المتغيرات لم يعد الخطاب الإعلامي يمر مر الكرام ويقال هذا أقصى ما نستطيع . عفواً باتت حدودنا السماء اليوم، وكان بالإمكان أفضل مما كان، فالجماهير تحكم على الخطاب الإعلامي من اللحظة الأولى وتقرر ان تستمر او تنهي تلك المتابعة، لم يعد الهروب صوب مواقع التواصل الاجتماعي للادعاء بأننا نقدم خطاباً إعلامياً بديلاً فنشتم ونلعن ولا نقدم فكرة، وبالتالي لا تنتبه أن هناك مئات يستخدمون خاصية عدم المتابعة لأنك جزء من الخطاب الإعلامي الفاشل الذي أكل عليه الدهر وشرب.
المتغيرات عميقة اليوم، ولم يعد يسعف معها أن نستعرض تاريخنا. التاريخ ماض بعيد لا يسعف بالمطلق، فلعلك تعتقد ان نياشين الامس تسعفك اليوم، نعتذر منك، عش الواقع ومتغيراته والتاريخ سامحنا به عاد وصفة طبية لا تعالج. لا ينتج في ظل المتغيرات ان نقول انني اقود أكبر وأعرق مؤسسة في البلد على مستوى الوطن، سامحونا لم تكونوا جزءاً من المتغيرات ولم تبلسموا لهفة الناس.
في ظل المتغيرات لم تعد الجماهير تبكي على غياب تطوعي لهذا أو ذاك، حتى لو ظهر تلميحاً أن فلان لو حضر لصنع فرقاً، وبات السؤال الاستنكاري: لماذا غاب فلان، لسنا بحاجة له. ونستثني من ذلك الذين توفاهم الله وفقدهم الناس بخطابهم الإعلامي المميز وحضورهم كذلك، فما بال الجماهير بحجم تلك المتغيرات العميقة تتذكر الذكرى العشرين لوفاة فيصل الحسيني أمير القدس، وتستذكر ياسر عرفات، وتستذكر الدكتور صائب عريقات وخطابه الإعلامي النوعي.
اليوم لا يوجد متسع للتساوق مع النفاق الدولي الذي يكذب ويقول (حل الدولتين في خطر) وكأنه كان في الامان قبل ذلك ومحاولة العودة للمربع الاول بالمطلق (تعالوا نطوي الصفحة ونبدأ من البداية)، ليس بالإمكان في ظل العدوان والاستيطان وأسرلة القدس، وهذا لا يقلل من أهمية الجهود الدبلوماسية النوعية وذات المحتوى.