لسنوات طويلة مضت، وربما لعقود، ظلت العلاقات شديدة الخصوصية والتفرد بين الولايات المتحدة وإسرائيل، تمثل «لغزاً» عجز الخبراء والمتخصصون عن تقديم تفسير حقيقي له وما هي أسبابه.
كثير من هؤلاء ركزوا على مفهوم «الدور الوظيفي» الذي تقوم به إسرائيل في خدمة المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، وآخرون اعتبروا أن إسرائيل لا يمكن أن يكون لها وجود مستقل وقوي دون الحماية والرعاية الأمريكية، لكن يكاد كل هؤلاء أن يكونوا قد استبعدوا وجود أي تناقض في المصالح والأهداف بين الطرفين الإسرائيلي والأمريكي، في ظل قناعة راسخة تؤكد وجود تطابق إلى درجة التوحد بين الأهداف والمصالح الإسرائيلية والأمريكية. في الأعوام الأخيرة أخذت بعض التململات تظهر في تعليقات كبار الساسة الإسرائيليين، اعتراضاً على سياسات أمريكا في الشرق الأوسط خاصة مع إيران وسوريا.
ومع ظهور مؤشرات تتحدث عن أفول العصر الأمريكي وظهور قوى عالمية منافسة على الزعامة الدولية مثل الصين وروسيا، بدأ الإسرائيليون يتجهون إلى تكثيف علاقاتهم مع البلدين. مؤشرات كانت تقول إن إسرائيل غير مستعدة للمراهنة (على طول المدى) على علاقة تاريخية مع الولايات المتحدة إذا كانت مثل هذه العلاقة لها مردودات سلبية على المصالح الإسرائيلية، وإن إسرائيل بدأت تتحرر من عقدة «الحليف الأوحد» أو «الأخ الأكبر» الأمريكي.
مثل هذه الاستنتاجات كانت توصف بأنها متسرعة، وأن إسرائيل من المستحيل أن تجد لها حليفاً مثل الولايات المتحدة، وأنها مضطرة لتكييف سياساتها بما يتوافق مع التوجهات الأمريكية، لكن التصريحات التي أدلى بها بنيامين نتنياهو حول هذه العلاقة، يوم الاثنين قبل الماضي 31 5 2021 في خطابه خلال مراسم تبديل رئيس جهاز «الموساد» كان مفاجأة أقرب إلى الصدمة، عندما أكد رفضه المطلق للعودة الأمريكية للاتفاق النووي مع إيران، على العكس من رغبة إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن.
وقال إن حكومته «ستواصل العمل لمنع إيران من الحصول على سلاح نووي حتى لو تم التوصل إلى اتفاق معها»، لكنه تمادى في التحدي. وقال: «إذا اضطررنا إلى الاختيار، وآمل ألا يحدث هذا، بين الاحتكاك مع صديقتنا الكبيرة، الولايات المتحدة، وبين إزالة التهديد الوجودي (الإيراني)، فإن إزالة التهديد الوجودي تتغلب».
اللافت هنا هو أن أحداً من أركان الحكومة أو المعارضة الإسرائيلية وبالذات قادة «معسكر التغيير» الذي بات مهيأ لتسلم السلطة خلال أيام، خلفاً لحكومة نتنياهو، لم يصدر عنه رفض لهذا التحدي. الاعتراض الوحيد جاء شكلياً وعلى لسان جانتس وزير الدفاع، الذي لم يعترض على ما قاله نتنياهو، ولكنه اعترض على كشف هذا الخلاف علانية على الملأ وعلى الإعلام.
جاء الرد الأمريكي متسرعاً في شكل استدعاء عاجل لجانتس في اليوم ذاته، للسفر إلى واشنطن للقاء كبار المسؤولين الأمريكيين، وبالفعل سافر جانتس في اليوم التالي الأربعاء، وفي يوم الخميس الثالث من حزيران 2021، كانت لقاءاته المكثفة مع وزير الخارجية أنتوني بلينكن وجيك سوليفان مستشار الأمن القومي ولويد أوستن وزير الدفاع، وكل ما صدر من تعليقات وتصريحات عن هؤلاء الثلاثة الكبار في إدارة جو بايدن، يجب التعامل معه على أنه المسموح به «خارج الغرف المغلقة».
أما ما دار بالفعل داخل هذه الغرف، وعلى النحو الذي تريده واشنطن وتحدث به جانتس في تل أبيب، وكان محل تقدير أمريكي، فيبقى خفياً، لكن يمكن التعرف إلى بعض مؤشراته من تصريحات هؤلاء المسؤولين العلنية ومن التعليق المهم الذي صدر عن رئيس الحكومة الإسرائيلية المرتقب نفتالي بينيت؛ ألد أعداء بنيامين نتنياهو الآن، أو هكذا يعتبره نتنياهو.
أول هذه المؤشرات جدية الإصرار الإسرائيلي على تدمير القدرات النووية الإيرانية، وإعطاء متطلبات الأمن الإسرائيلي كل الأولوية، وأن على الولايات المتحدة أن تتكيف مع ذلك.
ثاني هذه المؤشرات هو أن الولايات المتحدة، على الرغم من وجود اختلاف على هذا الإصرار الإسرائيلي، فإنها حريصة كما أكد سوليفان على لسان الرئيس بايدن على «دعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وأن «السلوك العدواني الإيراني» مثار اهتمام الطرفين.
المؤشر الثالث هو أن هذه القضية؛ أي الإصرار الإسرائيلي على تدمير القدرات النووية الإيرانية سيكون على رأس أولويات جدول أعمال الحكومة الجديدة على نحو ما كشف نفتالي بينيت. ففي أول لقاء تلفزيوني له بعد توقيع الائتلاف الحكومي أي في نفس يوم لقاءات بيني جانتس في واشنطن، ورداً على سؤال عن احتمال أن يواجه الإدارة الأمريكية حول الملف النووي الإيراني، قال بينيت، إن بوصلته «هي أولاً أمن إسرائيل، أمن إسرائيل أهم مما سيقولونه علينا في العالم، مع ذلك فالشراكة مع الولايات المتحدة استراتيجية».
ثلاثة مؤشرات تكشفت خارج الغرف المغلقة، تزيد في مجملها من غموض مستقبل العلاقات الإسرائيلية الأمريكية في السنوات القليلة القادمة، التي مازالت حقائقها حبيسة «الغرف المغلقة».
عن “الخليج”