أجد من الصعوبة استيعاب الضجة والهلع والقلق الذي رافق الإعلان عن ومن ثم إعادة لقاحات «كورونا» من إنتاج شركة فايزر، والتي حصلت عليها وزارة الصحة الفلسطينية من الجهات الإسرائيلية، من خلال عقد شراء مباشر من ميزانية السلطة مع شركة فايزر المصنعة للقاح، والتي لم تستطع توريد اللقاح مباشرة بسبب عدم توفر اللقاح، وبالتالي وبشكل غير مباشر تم الحصول عليه من مخازن وزارة الصحة الإسرائيلية والذي وعلى ما يبدو أنها لم تعد بحاجة الى استخدامه، على الأقل في الوقت الحاضر.
وكذلك لا أفهم كثيرا أهمية وطبيعة وأهداف تشكيل لجنة تحقيق في هذا الموضوع، هذا إذا كانت هناك حاجة في الأساس الى تشكيل مثل لجنة كهذه، وحتى إثارة الموضوع بهذا الحجم في الإعلام وعلى وسائل التواصل المختلفة ومن خلال مؤسسات المجتمع المدني المتنوعة وما الى ذلك، وإذا كان أمرا إيجابيا في ذلك، فهو يظهر يقظة وتنبه ورقابة الأفراد والجهات المختلفة لأمور قد تكون أخطر، سواء على الصعيد الطبي أو غيره، قد تحدث في المستقبل القريب أو البعيد.
ومن خلال خبرتي الممتدة لسنوات طويلة، بدأت منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي من خلال عملي في جامعة بيرزيت، في الرقابة على الأدوية وبالأخص المصنعة محليا، من حيث الجودة والصلاحية، حيث لم تكن توجد في تلك الفترة وزارة فلسطينية للصحة، وكان يدير الأمور ضباط صحة إسرائيليون وموظفون فلسطينيون، وكانت نسبة نجاح الأدوية في ذلك الوقت محدودة، على عكس هذه الأيام حيث تضاهي جودة الأدوية المحلية نظيرتها الأجنبية، ومن ثم العمل في مجال رقابة وتحليل واكتشاف الأدوية في داخل وخارج البلاد وفي مجالات متنوعة، لا أجد الأمر فيما يتعلق بصفقة لقاحات «كورونا» من إنتاج فايزر مزعجا أو مقلقا لهذا الحد.
والسبب أنه وحسب ما سمعنا أو قرأنا أو شاهدنا، فإن صلاحية الدفعة من اللقاحات التي حصلت عليها وزارة الصحة والتي بلغت حوالي 90 ألف جرعة، والتي تمت إعادتها فيما بعد الى مصدرها، كان من المفترض أن تنتهي آخر شهر حزيران، أي أنها كانت فعالة من الناحية الصحية والقانونية، وإذا علمنا أن التاريخ الذي وصلت فيه اللقاحات الى الجانب الفلسطيني كان منتصف الشهر الحالي، أو ربما أكثر بقليل، فإنه عمليا كان من الممكن استخدام هذه اللقاحات قبل انتهاء صلاحيتها، ودون أي ضجة أو قلق أو هلع أو لجان تحقيق.
حيث إن وزارة الصحة وحسب بياناتها، تقوم أو تستطيع تطعيم كمعدل حوالي 10 آلاف شخص في اليوم الواحد وفي كل المحافظات، وحتى أنني شاهدت بيانا من الوزارة قبل أيام، بأنها قامت بإعطاء اللقاح الى حوالي 20 ألف شخص خلال 24 ساعة، وهذا يستحق التشجيع، ولماذا لا يتم تطعيم أعداد اكبر إذا كانت اللقاحات متوفرة، ولا داعي للذكر ان الصين قد أعطت مواطنيها حوالي مليار جرعة حتى الآن، وأن دولة مثل تركيا تطعم حوالي مليون ونصف المليون مواطن في اليوم الواحد، وأن الأردن القريب منا يعطي عشرات الآلاف واكثر من الجرعات يوميا.
ولذا وإذا كانت الـ 90 ألف جرعة من لقاح فايزر التي وصلت الى الوزارة صالحة الفعالية حتى آخر الشهر، وعلى افتراض أنه يتم تخزينها حسب المواصفات، أي على درجة حرارة حوالي 70 تحت الصفر، وعلى افتراض أنه هناك القدرة والجاهزية لإعطاء هذه الجرع قبل انتهاء الصلاحية، فلماذا تمت إعادتها ومن ثم تم الإعلان عن تشكيل لجنة تحقيق وكل ما أثير وما زال حول هذه الأمور، هذا إلا إذا كانت هناك أمور أخرى لا نعرفها، أو لم يتم الإعلان عنها، أو أن بعض الأخطاء قد تم ارتكابها.
حيث وحسب معلوماتي، فإن فترة صلاحية الدواء أو اللقاح ومن ثم ظروف التخزين، يتم تحديدها من قبل الشركة المنتجة، من خلال سلسلة من الأبحاث والدراسات قبل أن يتم تسويق الدواء أو اللقاح، أو تتم الموافقة عليه من قبل الهيئات الرقابية الدولية، ومن هذه الدراسات ما يعرف بدراسة «الثبات»، وبالتحديد ثبات المادة الفعالة، تحت ظروف معينة مثل درجة حرارة الغرفة أو في الثلاجة العادية أو تحت درجة الصفر 20 أو 50 أو أكثر، وبناء عليه يتم الإعلان عن ظروف التخزين على العبوة أو الجرعة.
وبالتالي حين يكون مكتوبا على لقاحات فايزر، أن صلاحيتها تنتهي آخر شهر حزيران، فهذا يعني أن هذه الجرعات فعالة من تاريخ إنتاجها وحتى آخر شهر حزيران، إذا تم تخزينها تحت الظروف او الشروط المعلن عنها على الوعاء، ولكن إذا لم يتم تخزينها صحيحا، وبالأخص بالنسبة الى اللقاحات التي هي حساسة أكثر من الأدوية العادية، فهذا يعني ولو نظريا أو قانونيا فقدانها للفعالية، وبأن خطأ طبيا أو صحيا قد حدث، وهذا يقودنا الى موضوع الأخطاء الطبية بشكل عام.
حيث نسمع في بلادنا وفي غيرها في العديد من الأحيان، عن احتمال حدوث خطأ طبي قد يؤدي الى وفاة أو الى إعاقة، وفي العادة وكرد فعل على ذلك، يتم إجراء تحقيق ومن ثم توقيف أو نقل أو فصل أطباء وممرضين عن العمل، ومع الانتهاء من ذلك الخطأ الطبي يعود الحديث مرة أخرى عن الخوف من وقوعها، وما يرافق ذلك من ألم ومن خوف وقلق عند الناس، سواء أكانت هذه الأخطاء الطبية تحدث في المستشفيات الخاصة، أو في داخل المستشفيات الحكومية أو في أماكن أخرى.
وكما حدث في الماضي، تثير القضايا المستجدة من الأخطاء الطبية، سواء في القطاع الخاص أو العام، جدلا متكررا ودون نهاية، حول الأخطاء الطبية، وحول الأنظمة المتبعة أو الموجودة حاليا، للتعامل مع الأخطاء الطبية في حال حدوثها، أو حول إجراءات المتابعة والمراقبة والمساءلة والتعلم والتقييم المتبعة، هذا إذا كانت هناك إجراءات محددة موثقة على شكل بروتوكول، للتأكد من عدم حدوث الأخطاء الطبية من الأساس، وللعمل من اجل عدم حدوثها مرة أخرى ان حدثت.
ورغم مأساوية نتائج الأخطاء الطبية ان حدثت، وبصرف النظر عن الأسباب الحقيقية لها، إلا انه من المتوقع ان يؤدي الى العمل من اجل التركيز اكثر، على منع حدوث مثل أمور كهذه في المستقبل من الأساس، بعيدا عن تشكيل اللجان وعن الاجتماعات والتصريحات الإعلامية، وبعيدا عن تبادل الاتهامات بين الأطراف المختلفة، وعن إلقاء اللوم هنا او هناك، والذي لن يساهم إيجابيا، في منع حصول أخطاء طبية أخرى، أو في مواصلة تطور وتقدم القطاع الصحي الفلسطيني.
ورغم الإقرار ان هناك تحسنا وتطويرا في خدمات وأجهزة وكوادر القطاع الصحي في بلادنا، إلا ان هناك الكثير الذي ما زلنا نحتاجه وبالأخص لمنع تكرار الأخطاء الطبية، والذي وفي ظل الإمكانيات المحدودة، والظروف المعقدة، يمكن القيام به، من خلال سياسات وإجراءات وأمور إدارية، ومن خلال تغيير في ثقافة عمل وتعامل، ومن خلال تطبيق إجراءات، ومن خلال تعديل في فلسفة الإدارة، وإعادة تسخير المصادر حسب احتياجات المواطن الفلسطيني، وحتى الحاجة الى إعادة ترتيب أولويات، والى تبني أنظمة إدارية اكثر كفاءة واكثر وضوح واكثر نجاعة.
ومع الأمل بأنه لم يحدث أي خطأ مهما كان نوعه فيما يتعلق بصفقة لقاحات «كورونا» من إنتاج فايزر، والذي وان حدث، من المفترض أن تعلن عنه لجنة التحقيق التي تم تشكيلها، وبالتالي الحديث والجدل حول دوامة الأخطاء، وبالتالي تصاعد القلق والإرباك والخوف عند المريض والناس بشكل عام، فإن معالجة قضية الأخطاء الطبية بشكل خاص، والواقع الصحي في بلادنا بشكل عام، يحتاج الى المزيد من الإجراءات الواضحة، وبالأخص الى تبني وتطبيق فلسفة، وإلى المزيد من المتابعة والمساءلة والتعلم والتقييم، والى التركيز على التخطيط لاستراتيجيات بعيدة المدى، تعتمد على مبدأ الوقاية كأولوية للحفاظ على الصحة العامة، وفي حال موضوع الأخطاء الطبية، الحاجة الماسة، الى وجود إجراءات وأنظمة عملية ومقنعة للناس، تمنع حدوثها من الأساس.