جرائم الاعتقال السياسي

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

بقلم: عبد الغني سلامة

مع عودتي للوطن، مع الأفواج الأولى للعائدين، كان يفترض بي أن ألتحق بأحد الأجهزة الأمنية.. لكني فضلت الانتظار سنة وأكثر لألتحق بوزارة مدنية.. ليس تشكيكاً بالأجهزة الأمنية، ولا اتهاماً لها، بل لعلمي أن وظيفتها وطبيعة مهامها قد تقتضي العنف، ولأني أرفض مساءلة أي فلسطيني مهما كانت شدة معارضته، ومهما كان توجهه السياسي أو الفكري.. مع يقيني أن منتسبي الأجهزة الأمنية وطنيون ومخلصون.. وطالما تفاخرنا بروحهم الثورية التي ظهرت مراراً وتكراراً، من هبّة النفق 1996، مروراً بانتفاضة الأقصى وانتهاء بالمواجهة الشجاعة للأمن الوطني في جنين قبل أيام معدودات، والتي أسفرت عن ارتقاء ثلاثة شهداء، ومقتل ضابط إسرائيلي.
ولكن بعد الانقسام، بدأت السلطتان (في الضفة والقطاع) تتحولان إلى نظم بوليسية، وصارت السلطة من وجهة نظرهما امتيازات ومكاسب، تتغذى على الانقسام.. وبدأت الأجهزة الأمنية تتغوّل على القانون، وعلى الشعب.. وصارت تمارس القمع بحدة، ولم تعد الطبقتان السياسيتان تطيقان أي رأي مخالف، وبإمكاننا سرد نماذج وأمثلة عديدة على ذلك في الضفة وغزة.  
سنظل نرفض مبدأ الاستدعاء على خلفية سياسية، ونرفض الاعتقال السياسي مهما كانت مبرراته، وندين بشدة عمليات التعذيب والإذلال في كل زمان ومكان، في غزة والضفة. كما نرفض استغلال دماء هؤلاء الضحايا لأغراض المناكفات الحزبية وتصفية الحسابات، والكيل بمكيالين، وإشاعة أجواء الكراهية لتعميق الانقسام.. مع التأكيد على أن ارتكاب جريمة في مكان لا يبرر ارتكاب جريمة مشابهة في مكان آخر.
ورغم الجانب المأساوي والمفجع لمقتل نزار بنات، إلا أنها من جهة أخرى تشكل فرصة ثمينة لنجعل منها الجريمة الأخيرة، ولوقف تسلط الأجهزة الأمنية على الناس في غزة والضفة، وفرصة لاحترام وتطبيق القانون.. ولنتفق على مبادئ وطنية وإنسانية تحترم حياة الإنسان الفلسطيني، وتصون كرامته، ولوقف الاعتقالات السياسية، وإغلاق الزنازين، ومنع المداهمات الليلية بكافة أشكالها، لنصوب أنظارنا صوب الاحتلال، ولنركز جهودنا في مقاومته، بدلاً من هذا الاستنزاف الداخلي الغبي.. لدينا معارك أهم في الشيخ جراح وسلوان وبيتا، وبيت دجن وكفر قدوم، وفي كل الوطن.. ولسنا بحاجة لخوض معارك داخلية الكل فيها خاسر.
ليس هذا الوطن الذي حلمنا به، وليست هذه الدولة التي نناضل لقيامها، وليس هذا النظام السياسي الذي نقبل العيش في ظله.. كل من انتمى للثورة من كافة الفصائل، ومن قاتلوا بالكلاشنيكوف، أو بالحجر والمقلاع، ومن سفحوا حيواتهم على مذابح السجون، وأهاليهم الذين تقاسموا معهم العذاب، ومن ارتقى شهيداً، ومن ودعه من أهله ومحبيه، والتلاميذ الذين حفظوا القصائد والأناشيد الوطنية، ورسموا خارطة البلاد على دفاترهم وفي مخيلاتهم، ومن تشرد في المخيمات، ومن عاش الغربة في المنافي، وذاق الذل في المطارات على أمل العودة.. كل أولئك تخيلوا فلسطين بأبهى صورها، حتى أن الواقعيين والمتشائمين منهم لم تأتِ في أسوأ كوابيسهم صورة مشابهة لما نراه الآن.
الوطن الذي نريده، والدولة التي ننشدها تتطلب منا جميعاً التدرب طويلاً على تفهم فكرة الحرية بمعناها الحقيقي، أي أن تقبلها لغيرك كما تقبلها لنفسك، وأن نعي تماماً فكرة المواطَنة، والحقوق المدنية، وحقوق الإنسان، وقيم الديمقراطية، والتداول السلمي للسلطة، وسيادة القانون، ونبذ العشائرية والطائفية والمناطقية، وأن نتدرب على قبول الآخر مهما اختلفنا معه، وأن نقاتل من أجل حقه في التعبير، كما نريده لأنفسنا، وأن نؤمن حقاً بالتعددية السياسية والفكرية، وأن نتشرب القيم المدنية العصرية، وأن نتخلص من الكراهية والتعصب، والرغبات الدفينة للانتقام.. وأن نرفض الظلم كلياً، فلا ندينه في منطقة، ونقبله في منطقة أخرى! وأن نعرف كيف نثمّن قيمة الحياة، وكيف نحترم المرأة، والأطفال، والبيئة.. وتلك شروط النصر وعدة المعركة، بل هي شروط الإنسانية.. ودونها سنقيم نسخة مشوهة عن الأنظمة العربية الشمولية، ودونها نحن غير جديرين بدولة، والأفضل أن نظل في حالة مواجهة مع الاحتلال.