أثار ما نشره، الأسبوع الماضي، الموقع اليميني الأمريكي “واشنطن فري بيكون ـ منارة واشنطن الحرّة”، من أن إدارة بايدن تراجعت عن اعتراف إدارة ترامب بضم الجولان لإسرائيل، ضجّة كبيرة في أوساط الحزب الجمهوري، وأدّى إلى حملات تبادل تهم بين أقطاب الحكومة الإسرائيلية الجديدة ونوّاب المعارضة، التي يقودها عضو الكنيست بنيامين نتنياهو. واتهم أعضاء كونغرس جمهوريون إدارة بايدين بالتخلي عن مسؤوليتها تجاه أمن إسرائيل، ووجّهت التهم من المعارضة الإسرائيلية ضد الائتلاف، بأن موقفه غير الصلب أدّى لتغيير الموقف الأمريكي، الذي يعتبر من أهم إنجازات حقبة نتنياهو.
لم يحتو ما نشره الموقع على موقف علني جديد لمسؤول أمريكي، ولكنّه جاء تحليلا لبعض المقابلات غير العلنية، مع مسؤولين في وزارة الخارجية، الذين عادوا وكرروا محتوى تصريحات سابقة لوزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن مفادها أن “الجولان مهم للغاية لأمن إسرائيل، وطالما أن الأسد في السلطة، وطالما أن إيران موجودة في سوريا فإن الجماعات المسلحة المدعومة من إيران ونظام الأسد نفسه تشكل تهديداً أمنياً كبيراً لإسرائيل.. بمرورالوقت، إذا تغير الوضع في سوريا، فيمكن النظر في هذا الشأن، لكننا لسنا قريبين من ذلك”. وتحت ضغط أسئلة الموقع المذكور، صرّح مسؤول في الخارجية الأمريكية، لم يكشف عن هويته، بأن “هذه الأرض ليست ملكا لأحد، والسيطرة عليها وحيازتها قد تتغيّر تبعا لديناميّات التحولات المتواصلة”.
لم يعجب هذا النشر القيادات الجمهورية الأمريكية والقيادات الإسرائيلية، بيسارها ويمينها، واضطرت وزارة الخارجية الأمريكية إلى إصدار توضيح مقتضب: “لم تتغيّر سياسة الولايات المتحدة بشأن الجولان، والتقارير التي تشير إلى عكس ذلك كاذبة”. وتلقّف وزير الخارجية يئير لبيد هذا التوضيح، وشنّ هجوما على المعارضة، التي يقودها نتنياهو، واتهمها بأنها تتلاعب بمصالح وبأمن إسرائيل، في سبيل ضرب الحكومة الجديدة، ملمحا إلى أن نتنياهو يقف خلف النشر، ولم ينس أن يؤكّد أنّ “الجولان كنز استراتيجي، وجزء لا يتجزّأ من دولة إسرائيل السيادية، والولايات المتحدة اعترفت بذلك”.
لكن ما القصد بتعبير “لم تتغيّر سياسة الولايات المتحدة”، هل التي لم تتغيّر هي سياسة الدولة، التي مازالت ملزمة بقرار ترامب بالاعتراف بالضم؟ أم هي سياسة الإدارة الديمقراطية، التي عبّر عنها وزير الخارجية بلينكن، الذي امتنع، حتى الآن، عن التصريح بالالتزام بموقف الإدارة السابقة بالاعتراف بالضم؟ الكثير من المعلقين في الولايات المتحدة وإسرائيل يعتبرون الموقف الأمريكي غير واضح اليوم. ويبدو أن الإدارة الأمريكية تحاول الامتناع عن الإفصاح عن التزام حاسم وواضح في هذه المسألة، حتى لا تضعف الحكومة الإسرائيلية الجديدة، إن هي تراجعت، من جهة وحتى لا تخلق توتّرا مع التيار التقدمي في الحزب الديمقراطي، ومع الدول العربية، إن هي أكّدت، من جهة أخرى. ردّ أعضاء كونغرس من الحزب الجمهوري، على ما سموه الغموض بشأن الجولان، وعبّروا عن غضبهم داعين الى الإسراع في تمرير قانون، طرح سابقا من قبل السيناتور تيد كروز، يكبّل ويلزم الإدارة الأمريكية بالاعتراف بضم الجولان إلى إسرائيل. والطريف أن الجمهوريين يدعون للاعتراف قانونيا بضم الجولان لإسرائيل، في حين أن القانون الإسرائيلي، الذي جرى تمريره عام 1981، لم ينص صراحة على الضم، بل على “فرض سريان مفعول القانون الإسرائيلي على الجولان”، وهكذا نجد الجمهوريين مرّة أخرى “كاثوليك أكثر من البابا”.
أما وزير الخارجية السابق مايك بومبيو، وهو من مهندسي الاعتراف بالجولان جزءا من إسرائيل، وأول مسؤول أمريكي يقوم بزيارته، فقد اتهم إدارة بايدن بأنّها “تعرّض أمن إسرائيل للخطر، في الوقت الذي تقوم بها ميليشيات مدعومة من إيران بالتخطيط لمهاجمة مدن شمال إسرائيل”، وأضاف: “الاقتراح بإعادة الجولان لسوريا، حتى بعد تغيير النظام، يتناقض ومتطلبات أمن إسرائيل ومع القانون الدولي”.
التلاعب بالقانون الدولي
قد نفهم ماذا يقصد بومبيو حين يتحدث عمّا يسميه “أمن إسرائيل”، لكن من أين جاء بأن إعادة الجولان إلى أصحابه، كما ينص القانون الدولي بوضوح، يتناقض والقانون الدولي. القرارات الدولية واضحة أوّلها القرار 242 عام 1967، ويليه قرار 497، الذي اتخذه مجلس الأمن بالإجماع ورفض فيه بشدّة قانون “ضم الجولان”، وكذلك قرار الجمعية العمومية، الذي جاء بعده وأكّد على المضمون نفسه. ما يقصده بومبيو بالقانون الدولي هو ذلك التشويه الوقح للقانون الدولي، الذي اتفق عليه في حينه ترامب ونتنياهو، وهو أن “دولة تحتل أراضي في إطار حرب دفاعية، يحق لها الاحتفاظ بهذه الأراضي وضمّها إليها”، أو كما صرّح نتنياهو “من يعتدي عليه أن يعرف أن لا حق له في استعادة أراضيه وقد يخسرها”. طبعا القرار هل الحرب دفاعية او عدوانية يقررها الطرف الأقوى والمنتصر والمعتدي. لا يوجد أي سند قانوني لهذا “الإبداع”، والتشريع الدولي بشأن قوانين الاحتلال، لا يتطرق بالمرة لمسألة الاعتداء والدفاع، ولا صلة لها بعدم جواز إجراء تغييرات دائمة مثل الاستيطان والضم. وهذا هو موقف غالبية أساتذة القانون الدولي في إسرائيل نفسها.
الاستيطان هو الحل
تصاعدت في السنوات الأخيرة الدعوة الى تكثيف الاستيطان في الجولان، وإلى إحداث انقلاب في التوازن الديمغرافي فيه، فقد وصل عدد المستوطنين في الجولان إلى 25 ألفا يسكنون 33 مستوطنة، مقابل ما يقارب 25 ألف مواطن عربي سوري، هم من تبقّى من أهالي الجولان، الذي جرى تهجير غالبيتهم الساحقة عام 1967. وبعد ان تبين لإسرائيل أن كل العالم تقريبا ضد قرار الاعتراف، الذي أعلنه ترامب، ازدادت القناعة بأن الاستيطان هو الحل وأن الواقع على الأرض هو الذي يحسم وليس التصريحات، مهما بلغت أهميّتها، ويجري الحديث اليوم عن إسكان مئات الآلاف من الإسرائيليين في الجولان، في إطار مشروع ضخم لسد الطريق على إمكانية الانسحاب، وعلى عودة لاجئي الجولان المنسيين. الاستيطان والاستغلال غير القانوني للموارد الطبيعية، وتغيير الواقع على أرض الجولان المحتل لا تحظى بالاهتمام الكافي، ولا يبدو ان هناك ضغطا عربيا يذكر على المجتمع الدولي لاتخاذ مواقف، ناهيك من خطوات، ضد هذا الخرق الإسرائيلي المفضوح للقوانين والأعراف والقرارات الدولية.
الجولان قضية لاجئين أيضا
بلغ عدد سكّان الجولان في المنطقة، التي احتلتها إسرائيل عام 1967، حوالي 138 ألفا سكنوا في 234 قرية ومزرعة. وفي إطار مشروع التطهير العرقي، الذي قامت به إسرائيل جرى تشريد 131 ألفا، ولم يبق في الجولان سوى 7 آلاف في خمس قرى، هي مجدل شمس وبقعاثا ومسعدة والغجر وعين قنيا. وقام الاحتلال الإسرائيلي بمحو القرى والمزارع عن وجه الأرض، ولم يبق منها سوى أطلال نادرة. ويبلغ عدد اللاجئين من الجولان اليوم أكثر من 600 ألف، وهم في الواقع منسيون وغائبون عن الخطاب السياسي، وعن اهتمام الرأي العام العربي والدولي منذ عشرات السنين، وقضيّتهم حتى غير معروفة لمعظم العرب.
خمس قرى تناطح إسرائيل
حاولت إسرائيل فرض مشروع أسرلة على أهل الجولان، الذين بقوا في قراهم، وعملت على إغرائهم بقبول المواطنة الإسرائيلية، والاندماج في الدولة العبرية، ورفضت الغالبية الساحقة من أهل الجولان “الهوية الإسرائيلية” ولم تقبل بالأمر الواقع، الذي حاول الاحتلال فرضه، وسجن المئات من أبناء الجولان بتهمة المقاومة والمس بأمن إسرائيل. لقد نجحت خمس قرى صغيرة ومعزولة نسبيا في المحافظة على هويتها القومية والوطنية العربية السورية، وحتى لو قامت إسرائيل بفرض قانونها على الجولان، فهي لم تفلح في مشروع تشويه هوية أهله، الذين مازالوا يتمسكون بانتمائهم وهويتهم، ويرفعون رايات التحرر من الاحتلال. إنها خمس قرى تناطح إسرائيل، وهي ذخر استراتيجي في المعركة لاستعادة الجولان وتخليصه من أنياب المحتل الإسرائيلي.
ما العمل؟
أصعب ما تواجهه قضية الجولان هو التهميش والإقصاء واللامبالاة العربية. وإسرائيل تستغل ذلك لتمرير مشاريعها التوسّعية الاستعمارية في الجولان السوري المحتل. لقد بنيت السياسة السورية الرسمية بشأن الجولان على مبدأ التوازن الاستراتيجي، ومشروع التحرير العسكري، أو الدبلوماسي تبعا لذلك. على هذا الأساس جرى إهمال عربي شامل لقضية الجولان كقضية لاجئين وكقضية تحرّر أهله من الاحتلال، وكان هناك تقليل من أهمية مخاطبة الرأي العام الدولي وتهميش دائم على أساس ان هناك قضايا أهم. قضية الجولان مهمة بحد ذاتها، لكن لن نوفيها حقّها، إذا لم نربطها بالمواجهة الشاملة مع المشروع الكولونيالي الصهيوني، وكل خطوة إلى الأمام في المعركة على إنهاء احتلال الجولان هي ضربة لهذا المشروع ومكسب في ساحات مواجهة أخرى معه وبالأخص الساحة الفلسطينية. ورغم الظروف الصعبة التي يمر بها الوطن العربي والدولة السورية، فإن هناك حاجة ماسة للدفاع عن الجولان، وهناك إمكانية واقعية لفعل سياسي مقاوم للاحتلال والاستيطان والاستغلال البشع للموارد الطبيعية في الجولان.
من الممكن ومن المطلوب تنظيم لاجئي الجولان للمطالبة بحق العودة، ولفضح مشروع التطهير العرقي الذي نفّذ بحقّهم عام 67، ما يثبت صحة القول إن جريمة التطهير العرقي هي سمة ملازمة لمشروع الدولة العبرية.
من الممكن ومن المطلوب تفعيل القيادات والمنظمات الأهلية في قرى الجولان المحتلة، لفضح الاحتلال وللمطالبة بالتحرر من الاحتلال، لتوجيه رسالة مؤثّرة أن إنهاء الاحتلال هو مطلب شعبي وليس مطلبا دبلوماسيا فقط. من الممكن ومن المطلوب ان تقوم جامعة الدول العربية بوضع قضية الجولان على سلم أولويّاتها، بلا علاقة بالدولة السورية، فهذه أرض سورية وأرض عربية بالدرجة نفسها. من الممكن ومن المطلوب حشد ضغط عربي ودولي على الإدارة الأمريكية، حتى لا تخضع للمطلب الإسرائيلي بالإعلان رسميا عن الالتزام باعتراف ترامب بضم الجولان وصولا الى الغاء هذا الاعتراف. هناك الكثير مما يمكن ومما هو مطلوب فعله. لا تتركوا الجولان وحيدا.
*رئيس حزب التجمع الوطني في أراضي 48 .