مناورات البحر الأسود وسياسة حافة الهاوية

حجم الخط

بقلم هاني عوكل

 

ثمة تاريخ حافل بالتوتر والعداء بين حلف «الناتو» وروسيا وريثة الاتحاد السوفييتي الذي دشّن بعد الحرب العالمية الثانية بحوالى عشرة أعوام حلف «وارسو» الذي تفكك بتفكك الاتحاد السوفييتي أوائل تسعينيات القرن الماضي، وتحول النظام الدولي من القطبية الثنائية إلى القطب الواحد.
الصعود الروسي إلى واجهة النظام الدولي بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، دفع بحلف «الناتو» إلى الاستمرار في مهامه العسكرية لمواجهة مخاوف التمدد الروسي في أوروبا الغربية، وطالما كانت المناورات العسكرية سواء الروسية أو مناورات «الناتو» جزءاً من استعراض القوة و»جرس» إنذار أو تنبيه مرتبط بسياسات ومصالح هذه الدول.
قبل أكثر من سبعة أعوام خلقت سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم المطلة على البحر الأسود توتراً شديداً بين الشرق والغرب، وفسّر الأوروبيون هذه السيطرة على أنها تهديد مباشر لمصالحهم الاستراتيجية، انطلاقاً من نقطة الاختلاف على أوكرانيا بعد الإطاحة بالرئيس فيكتور يانوكوفيتش الموالي لموسكو.
في الأساس كل فكرة ضم روسيا لشبه جزيرة القرم محاولة لمنع تمدد أوروبا الغربية شرقاً وتطويق موسكو أكثر فأكثر، وثمة العديد من المناورات العسكرية التي أجراها الطرفان – حلف الناتو وروسيا - في البحر الأسود وشرق المتوسط وفي دول أخرى، بهدف حماية مصالحهما.
هذا التسخين دفع بروسيا إلى مضاعفة جهودها العسكرية لتطوير قدراتها الصاروخية الهجومية والدفاعية، بحيث يمكنها ذلك من التفوق في أي حرب استباقية محتملة على أوروبا الغربية، وكذلك الحال بالنسبة للأخيرة التي مضت دولها في تحديث ترسانتها العسكرية وبالأخص الصاروخية.
على خلفية كل هذا التوتر ومع انضمام العديد من دول أوروبا الشرقية إلى حلف «الناتو»، وكذلك نشر صواريخ اعتراضية ضمن المنظومة الدفاعية لحلف شمال الأطلسي في بولندا وأخرى رادارية في التشيك، عزز القلق لدى موسكو التي نشرت هي الأخرى صواريخ باليستية قصيرة وطويلة المدى تصل إلى أوروبا وحتى الولايات المتحدة الأميركية.
وفي شبه جزيرة القرم وضعت قوات الدفاع الروسية أنظمة صواريخ متطورة بما فيها «اس 400» تحت أهبة الاستعداد، وتجاوز ذلك إطلاق مناورات عسكرية بحرية روسية في البحر الأسود قبالة أوكرانيا، للتأكيد على حق موسكو الشرعي في ضم «القرم» ومواجهة المد الأوروبي الغربي في أوكرانيا.
وفي رد على عدم الاعتراف الأميركي والأوروبي بضم روسيا شبه جزيرة القرم، أطلق حلف «الناتو» العام 2018 مناورة عسكرية ضخمة جداً تزيد على 60 ألف جندي وبمشاركة دول كثيرة في النرويج التي تربطها حدود برية وبحرية مع روسيا، وفي مثل هذه الأوقات تشارك عشرات الدول بما فيها أوكرانيا وواشنطن في مناورات عسكرية بالبحر الأسود تحت اسم «نسيم البحر».
غير أن لغة التصعيد اختلفت هذه المرة على خلفية عبور سفينة حربية بريطانية البحر الأسود بالقرب من شبه جزيرة القرم، في إشارة واضحة إلى عدم اعترافها بأحقية موسكو على جزيرة القرم وتبريرها المرور بأنه إبحار في طريق دولي معترف به.
الرد الروسي كان صلباً وحاسماً إلى درجة أن البحرية الروسية طلبت من السفينة البريطانية استخدام طريق بحرية أخرى غير العبور في المياه الإقليمية التابعة لموسكو، وتبع ذلك لهجة سياسية روسية حادة تجاه لندن حيث استدعت الخارجية الروسية السفير البريطاني في موسكو ووصفت هذا العمل بالاستفزازي.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في لقاء متلفز مع إحدى القنوات الروسية، أشار بوضوح إلى أن التصرف البريطاني في شبه جزيرة القرم ليس فردياً، وإنما جاء بتنسيق مع الولايات المتحدة الأميركية التي اتهمها هي الأخرى بتحليق إحدى طائراتها الحربية فوق شبه جزيرة القرم بعد يوم على حادثة السفينة البريطانية.
كذلك ألمح بوتين إلى أن سفنه الحربية كان يمكنها إغراق السفينة البريطانية دون الذهاب إلى حرب عالمية ثالثة، وفي المقابل تحدث عن التطور المستمر في الترسانة العسكرية الروسية وتفوقها على العديد من الدول المتقدمة وأيضاً تفوق بعضها على الولايات المتحدة خصوصاً في مسألة الصواريخ الباليستية والنووية طويلة المدى.
في كل الأحوال يلحظ أن أوروبا باتت مسرحاً لتوزيع القوى العسكرية وبالذات توسيع خارطة نشر منصات الصواريخ الدفاعية والهجومية، وهذه الأفعال مرتبطة باستعراض العضلات وتحقيق أكبر قدر من المصالح، إذ تدرك روسيا ومعها الغرب أن خيار الحرب الشاملة هو أمر غير وارد لأن ذلك سيفضي إلى دمار شامل وكبير.
بالتالي يمكن القول إن كل هذه الأفعال والأفعال المضادة ما هي إلا حرب باردة، وتندمج معها الحرب الاقتصادية التي ترسخت العام 2014 بعد التدخل الروسي في أوكرانيا، وقد تأخذ سنوات طويلة إلى أن يضعف فيها طرف على الآخر.
اللافت للنظر أن الولايات المتحدة الأميركية تواجه روسيا بحلف «الناتو» والاتحاد الأوروبي، بمعنى أن أكثر المتضررين من هذه الحرب الباردة هي قارة أوروبا.
غير أن هناك أصواتاً أوروبية غربية تعلو يوماً بعد يوم بشأن فتح قنوات للحوار مع موسكو بعيداً عن أجواء التسخين وسياسة حافة الهاوية.