بعد استشهاد المواطن الفلسطيني المعارض نزار بنات ليلة القبض عليه، من قبل قوات أمن فلسطينية في منطقة تحظر دخولها إلا بتنسيق أمني، ساد المجتمع الفلسطيني حركة احتجاج واسعة امتدت شمالا وجنوبا ووسطا، وامتلأت وسائل التواصل الإجتماعي بعبارات التعزية والمواساة لأهل الفقيد، والمطالبة بمعرفة الحقيقة المرة ونقد مظاهر الفساد في أنحاء الدولة الفلسطينية. من زمن طويل، ونحن ننبه إلى أهمية بل قداسة منظومة الحقوق والحريات الفردية للفلسطيني التي عانت الكثير تحت الاحتلال الإسرائيلي، والتي غدت تعرف بحقوق الإنسان هذه الأيام. وكنا قد تفاءلنا حينما صدّر القانون الأساس الفلسطيني لعام 2003 الباب الثاني منه للحقوق والحريات العامة وضمّنه أهم الحقوق والحريات المعترف بها عالميا وعلى رأسها الحق في الحياة والسلامة الجسدية. الحق في الحياة هو حق إلهي لكل إنسان، ولا يجوز الإنسحاب منه في أوقات الطوارىء، ولا يجوز أن ينزعه أحد كائنا من كان إلا بقرار من محكمة محتصة إذا اجزنا عقوبة الإعدام أساسا، علما بأنها عقوبة مرفوضة ومدانة إلا إذا تخللتها ضمانات شديدة تحقق العدالة. الحق في الحياة حق طبيعي يجب صيانته والحفاظ عليه واتخاذ الحيطة والحذر من المساس به أو تعريضه للخطر. الحق في الحياة هو ركيزة الحقوق جميعا فبدونه لا حاجة لنا بحرية العقيدة وحرية الراي والضمير فهو يقوض وجود المجتمع بحد ذاته. قال تعالى ” ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ” ، ” ومن قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكانما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ” ، ” ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ” . من هنا حرصت كل تشريعات العالم ومواثيق حقوق الإنسان العالمية والإقليمية ومنظماته على اعتباره حقا محوريا مركزيا للإنسان، وبالتالي حماية هذا الحق غير المتكرر والمقدس بأكثر القواعد صرامة لحمايته ومن العبث به وتعريضه للخطر. لذا تخص القوانين هذا الحق بحماية خاصة وتمنع القبض على الأشخاص والتحقيق معهم إلا ضمن إجراءات معقدة وتقدم فكرة الحرية على فكرة الأمن. وتقوم الدول في هذا الصدد بعقد الدورات والتدريبات والندوات لمن يتصل عمله بالأفراد كقوات الأمن المختلفة ورجال الضابطة القضائية والعدلية، من أجل حماية هذا الحق المقدس الذي يقع مرة واحدة في هذه الحياة ومنع استعمال القوة بكل اشكالها. من هنا يكون التوقيف لفترة محدودة بالأيام وليس بالشهر أو بالأسابيع. وتحرص الدول الديموقراطية على عدم التفريط بالحق في الحياة وحمايته إلا الدول البوليسية والدكتاتورية. ويجب أن يدان القتل الحكومي بكل أشكاله وبكل أماكنه وبكل وسائله، وبخاصة أن المدني ضعيف في مواجهة القوة المسلحة للدولة بأجهزتها المتعددة، وهو يفتقد لوسائل القوة المسلحة التي يزخربها رجل الأمن ويمتلكها. وعلى رجل الأمن أيا كانت تسميته ، أن لا يستعملها إلا دفاعا عن النفس وباضيق الحدود وبشكل تناسبي، وكآخر طريق وملاذ استثنائي ونحو القسم السفلي للجسد وبشكل مقيد. ويجب أن لا تحرف أنظارنا ما تقوم به القوات الإسرائيلية من أعمال قتل وتصفيات جسدية لأفراد المقاومة والشعب الفلسطيني، وتصديق رواياتهم الكاذبة المزعومة حول أفعال هجومية . الاصل أن القتل جريمة مدنية بكل تفاصيلها وجزئياتها وأوصافها، يختص بها القاضي الطبيعي للمدني والذي هو القضاء النظامي وليس اي صلة للشخص الذي ارتكب جريمة القتل بطبيعة الجريمة وتغيير وصفها واختصاصها. فلو ان وزيرا ارتكب جريمة قتل أو جارا قتل جاره أو عشيقا قتل عشيقته أو عسكريا قتل مدنيا، فهل هذا سيغير من طبيعة الجريمة ويجعلها جريمة عسكرية واخرى مختلطة أو مدنية. القتل هو إزهاق روح ويختص ها القضاء النظامي وحده دون سواه والنيابة العامة هي الجهة الوحيدة المختصة بالتحقيق مع القاتل والقتلة مهما كانت صفته ولا أحد سواها، مهما قيل من أعذار وحجج لتغول الأجهزة الأمنية على القضاء المدني النظامي الذي هو أصل التقاضي وما عداه استثناء على الأصل. للأسف الشديد، بعد دخول السلطة وتوليها مقاليد الأمور، انتشر تأسيس اجهزة أمنية عديدة بلغت في وقت من الأوقات ثلاثة عشر جهازا تتنازع الاختصاص الموضوعي الوظيفي المتعارض المتنازع، مما خلق حالة من التنافس الشديد والتقاطعات بين وظائف هذه الأجهزة المتعددة الطموحة لأن تكون هي الأساس وغيرها الهامشية. ومما زاد الطين بلّة أن تم إنشاء قضاء عسكري وشكلت له أجهزة نيابة عسكرية تطبيقا لقانون العقوبات العسكري لعام 1979 في مخالفة صريحة للفقرة الثانية من المادة 101 التي قررت أن ” المحاكم العسكرية تنشأ بقوانين خاصة، وليس لهذه المحاكم اي ولاية خارج نطاق الشان العسكري “. ويبدو ان القضاء النظامي وجهاز النيابة العامة والمحكمة الدستورية ونقابة المحامين قبلت ضمنيا هذا التغول الأمني ومنه القضاء العسكري في حين أن ما يسمى القوانين الناظمة لعمله باطلة دستوريا من الناحية الشكلية ومن الناحية الموضوعية. وبقي النقاش حول قانونية القضاء العسكري والقانون العسكري محل نقاش في الدوائر المغلقة. وآثر الجميع عدم إثارة هذا الموضوع الحساس والمتفجر تجنبا لمشاكله، بينما حقيقة كانت المياه العميقة تجري من تحت أقدام القانون النظامي ومحاكمه وتسلب اختصاصاته حوضا تلو آخر. الأمن يقوم على قاعدة ذهبية هي ” نفذ ثم ناقش “، وهذا ما يفتقده القضاء المدني فلا سلطة عليه سوى للقانون والقضاء مستقل، وبالتالي يبدع القضاء المدني في اجتهاداته وخلق النظريات عبر درجاته المتعددة، بينما يتلقى الأمني الأوامر ممن هو أعلى منه درجة ومرتبة. ولعلي أذّكر بأن المرحوم ياسر عرفات شكل محكمة عسكرية لمحاكمة أحمد سعدات لمنع الإسرائيليين من محاكمته عملا بمبدأ القضية المقضية وعدم جواز المحاكمة عن فعل واحد مرتين، وكان أحد القضاة العسكريين أحد طلاب كلية حقوق جامعة القدس الذي لم يحصل بعد على إجازة في الحقوق بعد. وفي النهاية من سيختص بحق رؤية التظلم من قرار المحكمة، هل هو وزير الداخلية أو رئيس الوزراء أو الرئيس. وها هو الخلاف بين المدني والأمني وتغول الأخير على اختصاص الأول بحيث قلبت الأمور رأسا على عقب، يتفجر دفعة واحدة في قضية استشهاد المواطن نزار بنات. وغدا أن القضاء العسكري والإختصاص العسكري قيد على القضاء النظامي بل حائلا دون ممارسته لقضائه الطبيعي الذي قرره القانون الأساس. وليت المتنطعين والمدافعين عن هذه القوانين الإستثنائية الضيقة بطبيعتها والتي يجب أن لا يقاس عليها أن يعرفوا لنا ” الشأن العسكري ” الذي أجاز إنشاء قوانين خاصة ومحاكم عسكرية ومنعها من ممارسة أي اختصاص أو ولاية خارج نطاق ” الشان العسكري “. الشان العسكري هو قتال العدو وما يجري في ساحة الوغى بين العسكر أما في ساحة المجتمع وما يجري بداخله فهو أمر مدني تماما مهما بلغت الجريمة من بشاعة وقباحة، ويختص بها القضاء النظامي. وليت المفتين للسلاطين ان يوضحوا هذه الأمور بدل التسابق في الإفتاء لجهاز ما دون غيره ولي القواعد القانونية. قلنا من البداية أن التحقيق في موضوع شهادة نزار بنات هو من اختصاص النيابة العامة ولا شأن للقضاء العسكري أو النيابة العسكرية بهذا الشان. وكان على النيابة العامة أن تبادر لهذا الأمر بخطوة شجاعة عملا بصلاحياتها المستوحاة من قانون الإجراءات الجزائية والعمل بموجبها. حتى النيابة العسكرية رغم عدم قانونيتها والتي رسمتها قوانينها المفترضة، والتي تطبقها يوميا، تخلت عن واجبها المرسوم. أما قرار رئيس الوزراء تشكيل لجنة تحقيق فهو قرار إداري منعدم لأن قرار مجلس الوزراء المستند إليه باطل من أساسه، ولا يهم عدد اللجان التي شكلت بموجبه. فهو قرار لا يستند إلى قاعدة دستورية محددة تجيزه. شكلت القوة باشكالها المختلفة وبخاصة القوة المسلحة أكبر تهديد للقانون وسيادته. وشكّل الموظفون على اختلاف مراتبهم والوزراء ورجال الأمن أكبر تهديد فعلي لقوة القانون نظرا لتمتعهم بقوة السلاح وامتيازات القانون. من هنا كان تحذير الكثيرون من التغول على القانون والقضاء وعدم تنفيذ أحكامه . وما حدث مع المرحوم نزار خير دليل على ما نقول، فبعد أكثر من أسبوع لم تقم جهة رسمية بفتح تحقيق محدد ضد الجناة، وحتى لجنة التحقيق التي أوكل إليها التحقيق سلمت أوراقها ولم تستكمل مهمتها وعملها فهو ليس من اختصاصها. حذرنا وقلنا أكثر من مرة أن الانضمام إلى المواثيق الدولية لحقوق الإنسان والمعاهدات الدولية ليس أمرا تجميليا بل أمرا يقابله التزامات دولية من الدولة المنضمة كفلسطين. وفي ظل عدم تحقيق جاد ورصين في قتل المرحوم نزار بنات ستباشر الجهات الدولية المختصة هذا الإختصاص التكميلي، وبخاصة المحكمة الجنائية الدولية هذا العمل، وبخاصة أن فلسطين دولة طرفا لميثاق روما. فالصانع المهمل يتشاجر مع من يلقي باللائمة على أدواته. على النيابة العامة واجب ملقى على عاتقها بفتح تحقيق جاد سريع مع جميع من أغار على بيت المرحوم ليلا، بغض النظر عن صفته ورتبته . ويجب أن لا تعير النيابة العامة النظامية بالا لما يسمى بالإختصاص العسكري، فهو أمر لن تقبل به المحافل الدولية المختصة وسترى به وسيلة للتهرب من مسؤولية الدولة الفلسطينية من واجباتها القانونية. وبعد ذلك تقديم من تثبت التحقيقات فعلته توجيه اتهام بحقه للمحكمة المختصة، وإدانته على جريمته النكراء.العلم القليل أو الضئيل شيء خطير بل هو أخطر من الجهل. الحق في الحياة خلال مراحل العمر المختلفة حق اساسي للفرد مهما كانت صفته، وعلى الدولة تأمين الحماية اللازمة للفرد ذكرا أم أنثى، مؤيدا أو معارضا للنظام السياسي. الحق في الحياة هو حجر الرحى من حقوق الإنسان قاطبة ويمتد إلى السلامة الجسدية والعقلية والنفسية للفرد وبخاصة ألإعتداءات من قبل الدولة وافراد أجهزتها. ويجب أن تسن الدول القوانين والتشريعات لحماية هذا الحق وأن لا تجيز الإعتداء على الأفراد مهما عملوا فالفعل يجب أن يكون متناسبا. فالمرء أعجز من أن يفعل ما لا يطيق والجميل هو من يصنع الجميل ! |