عبد اللطيف عربيات، ونظرية المؤامرة (2 من 2)

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

بقلم: عبد الغني سلامة

عشية تأسيس المنظمة، نظرَ كل طرفٍ إليها من زاويته الخاصة: عبد الناصر أراد من خلالها الرد على خطوة إسرائيل بتحويل مجرى نهر الأردن، وأن تصبح الأداة السياسية التي تعبّر عن طموح الفلسطينيين في التحرير، وأن تكون إحدى أهم منجزاته.. جامعة الدول العربية أرادت أن تغطّي النقص الحاصل في تمثيل فلسطين في الجامعة بعد رحيل رئيس حكومة عموم فلسطين (أحمد حلمي).. الأنظمة العربية أرادت التخلص من العبء الأخلاقي والسياسي لقضية فلسطين، من خلال تصدير المشكلة للفلسطينيين وحصرها بهم.. وبعض الأنظمة الأخرى أرادت مراقبة الحراك الشعبي الفلسطيني واحتوائه، والسيطرة عليه، واختراق الكيان الجديد.. وبعضها أراد تكريس الوصاية على التمثيل السياسي للشعب الفلسطيني، ومواجهة المد الناصري من خلال تواجدها في المنظمة.. الملك الحسين اعتبر تأسيسها تدخلاً في الشأن الأردني؛ وتقويضاً للسياسة الأردنية القائمة منذ مؤتمر أريحا، باعتبار أن الضفة الغربية تحت السيادة الهاشمية، وبالتالي فإن الفلسطينيين مواطنون أردنيون.
وهذا الطرح الذي يدعيه عربيات يتناقض مع حقائق تاريخية معروفة، وأهمها أن قرار التقسيم 1947 كان يدعو لإقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، فلو كان في مخططات أميركا وإسرائيل والأنظمة العربية إيجاد ممثل للفلسطينيين لفعلوا ذلك من خلال تنفيذ قرار التقسيم، لكن ما حصل هو العكس تماماً؛ حيث ضمت الأردن الضفة الغربية، وضمت مصر قطاع غزة، وحاصرت الأنظمة العربية حكومة عموم فلسطين، ومنعت أي إمكانية لقيام تمثيل سياسي فلسطيني، أو كيان وطني..
يضيف عربيات: «حولوها من قضية إسلامية (1948) إلى عربية (1964)، ثم إلى فلسطينية (1974)».. حسناً، بما أن فلسطين كانت قضية إسلامية منذ النكبة وحتى العام 1964، فماذا فعل العالم الإسلامي طوال هذه الفترة؟ من الذي منعهم؟ وبعد أن صارت قضية عربية لمدة عشر سنوات، ماذا فعل العرب؟ ومن الذي منعهم؟ وبما أنها صارت قضية فلسطينية منذ العام 1974 وحتى الآن، من الذي يمنع العرب والمسلمين من التحرك؟ وما هي مؤشرات هذا التحرك أصلا؟ حتى لو كانت تحركات مخنوقة ومحاصرة، أو طفيفة وبالكاد ترى، أين هي، وما هي علاماتها؟ (باستثناء انضمام المئات من العرب والمسلمين والأجانب لقوات الثورة أثناء تواجدها في لبنان).. لماذا تحرك النشطاء الإسلاميون في أفغانستان، والبوسنة، والشيشان، والصومال، والعراق، وسورية، ومالي، وسيناء، حتى وصلوا مانهاتن ومدريد ولندن وبروكسل.. وكيف اخترقوا حدود تلك الدول، بأموالهم، وعتادهم، وأسلحتهم؟ لماذا نسوا فلسطين من جهادهم؟ هل كانت الشعوب العربية والإسلامية تزحف نحو فلسطين، وتفكر ليل نهار بالجهاد فيها، إلى أن جاء الفلسطينيون وقالوا لهم: لا داعي لكل ذلك، نحن وحدنا قادرون على التحرير؟ هل هناك مقولة أكثر سذاجة وسخفاً من مقولة افتحوا الحدود؟ وكيف يتعارض وجود المنظمة وتمثيلها لشعبها مع إمكانية نصرة العالمين العربي والإسلامي لفلسطين؟!
تنتهي المقابلة بقوله: «بالوصول إلى أوسلو، والاعتراف بإسرائيل، يعني أن كل ما حصل عبارة عن مؤامرة مرتبة خطوة بخطوة».. يعني إسرائيل وأميركا رسمتا مخططاً في العام 1957 جرى تنفيذه بنجاح مذهل على مدى أربعين سنة، دون أي إعاقة، ويعني بالتالي أن الفلسطينيين ومعهم العالمان العربي والإسلامي إما متورطون في المؤامرة، أو لا قيمة لوجودهم؛ فهم مجرد أدوات، وليس فيهم لا فعاليات شعبية، ولا منظمات أهلية، ولا مؤسسات مجتمع مدني، ولا أحزاب، ولا قوى معارضة، ولا مقاتلون، ولا مستقلون، ولا مفكرون، ولا أحرار.. كلهم قطيع، يسوسه الأميركي، الذي يضع خطة لنصف قرن مستقبلاً تنطلي عليهم بكل سلاسة!
طيب، الإخوان المسلمون، وهم أكبر حزب إسلامي في العالم، ولديهم ملايين الأتباع، ويمتلكون قوة مالية واجتماعية وسياسية ونقابية كبيرة جداً، ومعهم بقية القوى والأحزاب الإسلامية والجهادية واليسارية والقومية، وهم جميعاً لا يعترفون بإسرائيل، ويصرحون بالعداء لها، ماذا فعل هؤلاء غير المعترفين؟ ما هو تأثيرهم على مجريات الأحداث؟ ولماذا لم يحبطوا تلك المؤامرة؟
مسألة أخرى مهمة غابت عن ذهن عربيات: منظمة التحرير منذ نشأتها وحتى الآن لم تكن كتلة صماء، ولم تكن تمثل تياراً واحداً، أو نمطاً ثابتاً من التفكير والممارسة السياسية، وقد اختلفت في بنيانها وفكرها السياسي وبرامجها ومخرجاتها والقائمين عليها مرات عديدة، وبتقلبات عميقة.. فالمنظمة في بداياتها تختلف عنها بعد العام 1968، ثم أضحت مختلفة عما كانت عليه حتى العام 1974، وبصورة مختلفة حتى العام 1988، وبصورة أخرى مغايرة حتى العام 1993، وباختلاف آخر حتى العام 2004، وبصورة مختلفة كلياً كما هي عليه الآن.. تلك التغيرات أتت نتيجة تطور طبيعي، ونضوج سياسي، أو تأثراً بتفاعل جملة من الظروف المحلية والإقليمية والدولية، وتغيرات الخارطة السياسية، والنظام الدولي، وموازين القوى.. ولكل مرحلة من المراحل السابقة سماتُها وخصائصها، وبرامجها، وفكرها السياسي، وقوتها، وأدواتها، وأساليبها، وأداؤها المختلف.. بمعنى أن التعاطي مع المنظمة بمعزل عن كل تلك المتغيرات منهج غير سليم لا في التفكير، وفي التحليل، ولا في الاستنتاجات.. والنظر إلى كل تلك المراحل وكأنها تمثل خطاً صاعداً منتظماً ما هو إلا تبنٍ لنظرية المؤامرة، وهي نظرية عدمية، أثبتت فشلها وخواءها مراراً وتكراراً.
أراد عربيات وهو ينطق بلسان الإخوان المسلمين، ويعبر عن طريقة تفكيرهم أن يختزل وجود المنظمة ومعها كل الفصائل والقوى الوطنية التي انخرطت فيها بمسألة واحدة: الاعتراف بإسرائيل، متجاهلاً كل العمليات الفدائية والمواجهات العسكرية والحروب والشهداء والأسرى والتضحيات الكبيرة، والمنجزات السياسية، والتيارات الفكرية والسياسية والقوى الشعبية التي تفاعلت في داخلها، وتاريخاً مضرجاً بالدماء وحافلاً بالنضال والتصدي للمشروع الصهيوني.
في ظني أن أخطر ما في المقابلة أمرين، الأول: طريقة التفكير الساذجة والرغائبية في شيطنة الخصم، وهي منهج تفكيري رائج، وقد ابتُلي به العقل العربي، وكان من أهم مسببات تخلف الأمة العربية.. والثاني: موقف الإخوان الراسخ والأيديولوجي من منظمة التحرير، ومن الثورة الفلسطينية، حيث تعتبر الجماعة أن المنظمة جزء من مؤامرة صهيونية.. وهذا الموقف العدائي من المنظمة متخَذ قبل شروعها في أي تسوية سياسية.. حتى عندما كانت في أوج مقاومتها المسلحة!