بدءاً، الشكر مُستَحق للزميل كفاح زبون، كاتب التقرير المهم جداً، الذي نشرته «الشرق الأوسط» الأحد الماضي، تحت عنوان: «تنظيم سري يقوم بتسريب عقارات القدس للمستوطنين». من جديد، التقرير يعيد التذكير المؤلم، بل المُضني ألماً، بحقيقة تثير الألم هي أيضاً، إذ توضح كيف تمضي السنين، ويتواصل ضياع الأرض، فيما المسؤول الفلسطيني يتعامل مع عامل الزمن بما يكشف أنه، في معظم الأحوال، غير آبه بخطورة الوقت، الذي قيل فيه، منذ بعيد الأزمان، إنه كما السيف؛ إن لم تقطعه قطعك. نعم، صحيح أن التقرير المشار إليه أوضح بجلاء رد دوائر رسمية في رام الله إزاء أنهم «يجدون صعوبة في ملاحقة المُسربين»، ثم سرد ثلاثة أسباب في تفسير تلك «الصعوبة»، يمكن القول إنها موضوعية، إنما هل أنها تُعفي الجسم الفلسطيني ككل، وليس الجهات الرسمية وحدها، من مسؤولية بيع عقارات في القدس الشرقية لمستوطنين، أو لوكلاء لهم؟ كلا، بكل تأكيد، ولن يجادل في ذلك إلا مدافع عن وقوع مزيد من صفقات مماثلة، ليس ممكناً أن توصف بغير «خيانة» فلسطين لصالح استيطان متنمّر، مسلح حتى الأسنان، طامح أن يفترس كل ذرة تراب يستطيع أن يضع اليد عليها، غير متردد في اقتلاع أشجار الزيتون والنخيل، أعواد الذُرة وقصب السُّكر، كروم العنب وبيارات البرتقال والليمون، ما دام أن الزارع غارس الجذور، فارس الأرض وصاحبها، فلسطيني الجِذر والفرع والمنبت، سواء من القدس كان، أو من أي جزء آخر في فلسطين كلها.
لِمَ يثير ما سبق ألمَ إهمال معظم أصحاب القرار الفلسطيني عامل الزمن؟ هنا محاولة تجتهد في البحث عن إجابة. السبب، باختصار شديد، أن كارثة بيع عقارات فلسطينية في القدس المحتلة لمستوطنين ليست جديدة، لم تقع قبل أيام، وإنما بدأت منذ احتلال المدينة، وكما كل زحف استيطاني، حيثما وُجد، وليس في فلسطين وحدها، سوف تتخذ عمليات وضع اليد على أملاك أصحاب الأرض الأصليين، الكثير من الأساليب التي تمارسها جهات الإشراف على تمدد الاستيطان، مثل الخداع والتزوير في أسماء وهويات المشترين. لن تتردد تلك الجهات أيضاً في اللجوء إلى وسائل ذات طابع ابتزازي، إذا لزم الأمر، بما في ذلك تشويه السمعة، أو التعرّض للشرف والأعراض، ولو كذباً، بقصد تخويف كل مُستهدف مما يُعرف في عرف المجتمع بالفضيحة. حصل هذا من قبل، ولم يزل مستمراً. لنأخذ، مثلاً، ما نشرته صحيفة «الغارديان» البريطانية في عددها الصادر قبل أربع سنوات (الاثنين 13-2-2017) للكاتبة سارة هِلم (Sarah Helm) تحت العنوان التالي:
The senseless capture of Palestinian land is now too late to stop
ذلك عنوان قال آنذاك: إن الوقت قد تأخر كثيراً لوقف استيلاء المستوطنين على أراضي الفلسطينيين. نسبت الكاتبة هذا التنبيه الخطير إلى السيد خليل تفكجي، الخبير المتخصص في علم الخرائط، مثلما ينسب الزميل كفاح زبون في تقرير «الشرق الأوسط» للمحامي المتخصص في الشأن المقدسي، خالد زبارقة مطالبته «بضرورة تشكيل قيادة من المرجعيات الدينية والسياسية والاجتماعية والنقابية لكشف التنظيم السري بكل مكوناته؛ كمحطة أولى للتصدي لعمليات التسريب الجارية».
هل من مثل آخر؟ نعم. وفق تقرير نشرته صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية في عددها الصادر قبل ثلاث سنوات (الأربعاء 18-10-2018)، تمكنت جمعية «عطيرت كوهنيم» اليمينية، قبل ستة أشهر من تاريخ النشر، من شراء منزل في البلدة القديمة من مدينة القدس. بالطبع، ثارت موجة من الاتهامات في وسائل الإعلام الفلسطينية حول من الذي أبرم صفقة بيع العقار، ثم هدأت، كأن شيئاً لم يكن. من جهتي، أسمع منذ سنوات عن عدد من العائلات المقدسية، بينها سكان بحي الشيخ جراح، تخوض غمار معارك تقض المضاجع، وتسبب الكثير من الجِراح المعنوية، والآلام النفسانية، لتلك العائلات، كي تواصل رفض بيع عقارات تمتلكها منذ مئات السنين، بينما تشارك في ممارسة الضغوط عليها أطراف فلسطينية. يبقى السؤال الأهم، وهو قائم قبل ما نُشر هنا الأحد الماضي، ولكن خصوصاً بعده، هل من ضوابط جادة فعلاً سوف تنهض كي تضع الحد الكافي حقاً لأن يكف أيدي المشاركين في تسريب عقارات فلسطينية، سواء في القدس الشرقية أو غيرها، لغيلان زحف الاستيطان، أم أن الكارثة سوف تبقى مجرد زوبعة في فنجان، تثور فجأة، تتكاثر تفاعلاتها وتتنوّع، ثم إنها في مخدع إغفال سيف الوقت، تنام بضع سنين؟
* صحافي فلسطيني مخضرم. عمل في كبريات الصحف العربية من بينها جريدة “الشرق الاوسط” وصحيفة “العرب” اليومية” كما عمل مستشارا لصحيفة “ايلاف” الإلكترونية.