إنهم لا يعرفون متى يترجلون

حجم الخط

بقلم عريب الرنتاوي 

 

لا تحتفظ السلطة الفلسطينية بصورة “جميلة” في الأوساط الدبلوماسية، الغربية بخاصة، شأنها في ذلك شأن معظم الأنظمة والحكومات العربية.. الأحداث الأخيرة، منذ “تصفية نزار بنات”، زادت الطين بِلّةً.. السلطة اليوم، باتت قرين “الضعف” و”التفكك” و”الفساد” و”القمع والاستبداد”، وباتت تحتل مكانة متقدمة على الصفحات الأولى لكبريات الصحف والمجلات ونشرات الأخبار، من هذه الزوايا البشعة من أسفٍ شديد..

الفلسطينيون يفقدون “قوتهم الناعمة”، فلا حماس تحتفظ بصورة “عظيمة” لدى الرأي العام الدولي، ولا السلطة، قادرة على كسب معركة القلوب والعقول مع الرأي العام العالمي.

بخلاف شقيقاتها من الحكومات العربية، لا تستطيع السلطة أن تستغني عن “صورة إيجابية” لها لدى الرأي العام وعواصم القرار الدولي، لا لأنها تعيش اعتمادية شبه تامة على المساعدات الخارجية، بل لأن شرط نجاح بقايا “مشروعها الوطني” رهن بهذه الصورة.. الحكومات والأنظمة العربية، تقارف ما تقارف من جرائم ضد حقوق إنسانها وإنسان جوارها، ولكنها تتوفر على “دفاتر شيكات” ضخمة، أو تضطلع بأدوار سياسية وأمنية، تبدو عواصم الغرب بأمس الحاجة إليها، ولهذا نراها تشيح بأبصارها عن جرائم هذه الحكومات ومخازي تلك الأنظمة.

لكن مع ذلك، تراهن السلطة، وهي تسعى للتوغل والإمعان في أساليبها القمعية والاستبدادية، وتعتقل مناضلين ومحررين وحقوقيين وقادة سياسيين وصحفيين، على شيء آخر: هي تراهن على قلق الغرب وإسرائيل، بعض إسرائيل على الأقل، من صعود حماس وتنامي شعبيتها.. هي تراهن على أنها حصان الرهان الأخير لحل الدولتين، الذي لا تمتلك أي عاصمة إقليمية أو دولية بديلاً عنه.. هي تراهن على انعدام (أو لنقل لضعف) البدائل المقنعة لها، من داخل البيت الوطني- المدني- العلماني، وبعيداً عن مناخات الإسلام السياسي ومرجعياته ومحاوره.. هي تؤمن بأنها ستظل “ضرورة” لإدامة لعبة الخداع والتضليل التي تسمى عملية سلام.. ولذلك كله، نراها لا تستشعر الخطر على مستقبلها برغم تردي المكانة التي آلت إليها، وتشظى صورتها في مرآة الرأي العام والعواصم الفاعلة.

ثمة بعد آخر، مضمر، ربما يكون سبباً إضافياً في تفسير حالة الاستخفاف التي تعيشها السلطة بحالة الغضب الشعبي وانعكاساتها الدولية، فهي تدرك أكثر من غيرها أن مشروعها بلغ جداراً مسدوداً، وأن ليس لديها ما تقوم به، لجعله قابلاً للتجسيد، وأن كل ما يلزم بقاءها، هو استمرار المراوحة بين (أ و ب) وفقاً لتقسيمات أوسلو، على اعتبار أن الوضع الانتقالي المؤقت القائم، قد صار فعلياً وضعاً نهائياً، وأن كل ما هو مطلوب، هو تحسينات هنا، وتعديلات هناك، إن على خرائط أوسلو، أو على الأدوار المرسومة لأطرافه.. وضع كهذا، مستمر منذ ثلاثة عقود، لا يمكن لسلطةٍ أن تقبل به سوى السلطة القائمة…المؤقت يصبح دائماً، هذه هي خلاصة الخبرة الفلسطينية في التعامل مع إسرائيل، ويبدو أن ثمة في رام الله، من هو مستعد للقبول بهذا المعادلة، صامتاً، أو بقليل من الضجيج، ولثلاثة عقود أخرى قادمة، شريطة ألا يصم ضجيج الاعتراض آذان أحدٍ في تل أبيب أو واشنطن.

وأخطر ما في المشهد الفلسطيني، أن أحداً من أركان السلطة والرئاسة، لا يريد الاعتراف بالفشل، فشل المشروع الوطني، وفشل محاولة بناء سلطة رشيقة مُتخففة من الفساد والاستبداد، سلطة مناضلة، سلطة انتقالية على طريق الدولة…الاعتراف بالفشل يعني التنحي أو التنحية، وكلاهما خياران ممنوعان في الحالة الفلسطينية…والاعتراف بالفشل، يعني الاعتراف بعواقبه، ومن أولى ثمار هذا الفشل، زيادة هشاشة السلطة وهامشية المنظمة وتمزق فتح وتكريس الانقسام الأخطر في تاريخ الشعب الفلسطيني.

ليس هناك الكثير من الإنجازات التي يمكن استحضارها واستذكارها ونحن نتحدث عن “الجمهورية الثانية”، تحت قيادة الرئيس عباس…كل مظاهر الفشل التي أشرنا إليها، حدثت أو تفاقمت في عهده، وغالباً هو المسؤول عنها، مع أن ثمة أطراف أخرى تتحمل قسطها من المسؤولية كذلك، وثمة ظروف موضوعية صعبة لا يمكن التقليل من شأنها وأثرها…لكن المسؤول الأول، هو مسؤول أول كذلك، عن النجاح والفشل…ومن أسفٍ، فنحن نرى كثيراً من الفشل وقليلاً من النجاح.

لكننا مع ذلك، نسجل للرئيس عباس، وقفته حيال “صفقة القرن”، ودوره المتميز في عرقلتها حتى لا نقول إسقاطها، ولو أنه اختار “الترجل” إثر رحيل ترامب وصفقته، وأشرف على انتقال سلس وديمقراطي للسلطة والقيادة من جيل إلى جيل، ونظم انتخابات حرة وديمقراطية تحت رعايته وإشرافه، لقلنا أن وقفته من الصفقة تجبُّ ما قبلها…لكنه أصر على تعطيل الانتخابات، واستمسك بولاية إضافية، وتصرف كما لو أنه باق أبداً…وكان شاهداً ومسؤولاً عن أسوأ أداء للسلطة في انتفاضة القدس وسيفها، وهو مسؤول اليوم، عن فوضى السياسة وفلتان الأمن في مناطق سلطته، فما عاد أحدٌ يستذكر صفقة القرن ولا موقفه الرافض بعناد لها.

إنهم لا يعرفون متى يترجلون، شأن عباس في ذلك شأن كثيرٍ من القادة العرب: “زنقة زنقة دار دار”، “الآن فهمتكم”، و”فاتكم القطار”…مع أن الرجل والحق يقال، سبق وأن قال لكاتب هذه السطور، وفي عمان، بأنه سيغادر مكتبه ويسلم مفاتيحه، ما أن يخرج خمسين متظاهراً ضده، وعندما أخذت على عاتقي أمر تأمين الخمسين متظاهراً عليّ، ضحك ساخراً.

أبو مازن كان سيدخل التاريخ إلى جانب ياسر عرفات، لو أنه اختار التوقيت المناسب لرحيله، لكن يبدو أنه اختار أن يخرج من التاريخ، كما فعل أسلافه من القادة والرؤساء…مؤسف ألا تعرف متى تتوقف، ومحزن ألا تختار الزمان والمكان المناسبين للترجل.

* مدير مركز القدس للدراسات السياسية. كاتب ومحلل سياسي .