في البلد، لا يتوقف الحديث عن المدى الذي يندفع به البعض في إدخال المصطلحات التي قد تشكل أحد عوامل مفاقمة التوتر إلى درجاته الحمر.
وربما النموذج الصارخ للبرهنة على ادعائي؛ استخدام قيادات أولى جملة «شارع مقابل شارع» في خطاباتهم لتوصيف المشهد الفلسطيني بعد مقتل «نزار بنات»، ابتغاءً لتأطير الحراك وإعطائه المعنى المُفَضّل من وجهة نظر ذات مآرب وغايات سياسية.
نظرية الشوارع المتناصبة العداء، توصيف يجانب الحقيقة ويشوّهها. بضع كلمات لها تأثير أكثر سوءاً من تأثير قنابل الغاز والصوت.
شارع ضد شارع! توصيف يجانب الواقع، فرز تحريضي شامل يحمل التهديد والوعيد، يرفض بحزم التعددية والرأي الآخر ووجهات النظر.
لغة إطلاقية على حراك احتجاجي واسع يجمع قطاعات وشرائح المتضررين من ممارسات وأداء السلطة على مدار سنوات طوال، أدت إلى تراكمات محزنة تجاوزت مطالب اللحظات التاريخية الأخيرة بعد أن فاض كيلها وتكثفت للمطالبة بالتغيير، الإقالة والمساءلة والمحاسبة على قتل «نزار بنات» المُروِّع والمطالبة بإيصاله إلى العدالة بالقانون والاستعانة بالشارع للمطالبة بإجراء الانتخابات بجميع مستوياتها لإصلاح النظام السياسي المعطوب.
«شارع مقابل شارع»! لمصلحة ماذا يتم وضع الحراك في قالب خاص، والتهيئة لوضعه في قفص الاتهام علاوة على لجم أي تحرك يبادر له العقلاء من اجتراح الحلول وتقديمها، منعاً لتلبية المطالب من جهة ولاقفال الباب في وجه المطالبة بالحوار والانتخابات كممر للخروج من الحالة الانقسامية التي ضاعفت من الانقسام المعروف.
أما وضع الحراك عنوة في موقع المتهم بحمل أجندات خارجية، فهو مقاربة جاهزة لم يعد لها زبائن يقبلون على شرائها، وتساق لتشريع القمع والتنكيل بحقه، لا يوجد في الجعبة حلّ خارج القمع.
البديل للتهم الجاهزة، أن يقوم من يطلق الاتهامات الجاهزة، بالتدقيق والتمحيص في تفاصيل الحراك والشارع المعارض، وأن يتريثوا في إطلاق أحكامهم الإرادوية الخالصة، لوْ فعلوا لاستنتجوا أنهم يتحدثون عن ما لا يعلمون وأنهم يصنفون المجتمع رغائبياً، انطلاقاً من مصالح سياسية وتنظيمية.
ويُشارك بفعاليات الحراك عدد من الفصائل الشريكة في ائتلاف منظمة التحرير الفلسطينية ومن المشاركين في الحكومة، ويشارك بفعالياته مؤسسات المجتمع المدني الغارقة في مجالات الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلامية التي لها باع ووزن مهم على الصعيد المحلي والاقليمي والدولي، ومؤسسات عاملة في الدفاع عن الأسرى والشهداء وفي تقديم الخدمات الصحية والقانونية والاجتماعية وكذلك تشارك المؤسسات النسوية المتعددة الأهداف، كما استقطب الحراك طيفا واسعا من الشخصيات الوطنية المستقلة. الحراك أيضا مؤيد من قاعدة شعبية وجماهيرية واسعة، سواء شاركت مباشرة أو لم تفعل، حيث تتفهم وتؤيد دوافع ومطالب الحراك..
أيضا من مزايا الحراك بصرف النظر عن ما يمكن أن يوجه للحالة من تقييم، سلباً أو إيجاباً، أنه لا يحمل شعارات موحدة ومتفقاً عليها، لكن الحالة بما هي حالة مستجدة تمخضت عن تجارب حراكية متقطعة أو كرد فعل على الانتهاكات المسجلة على آلية اتخاذ القرار أو على أداء وطريقة العمل القيادي؛ مرشحة لأن تتوحد وتتعقلن لمقاربة الواقع المعقد ضمن أولوياته الرئيسة المعروفة للحفاظ على استمرايته لجهة تحقيق مطالبه..مع مراعاة أنه حراك أطلقه الغضب العارم بعد سلسلة الانتهاكات الخطيرة بحق المجتمع.
الحراك جمع بين مركبات ومجموعات مختلفة، جمعهم الحرص على البلد بعد الفظاعات المرتكبة، من تأجيل الانتخابات وقضية الطعوم المنتهية الصلاحية وقضية نزار بنات والخوف على المستقبل، لكن لا بد من ملاحظة معاناة الحراك من عدم توحد الشعارات، ربما بسبب حداثة نشوئه وظروف استدعائه التي فرضتها اللحظة دون سابق تخطيط وترتيب.
لا يفيد أصحاب القرار التعامل مع الحراك من منظور أمني لأنه سيصل إلى مأزق يزيد من حدة الأزمة، وعلاجه الانفعالي بالاستناد إلى نظرية «شارع مقابل شارع» يؤدي إلى مفاقمة الأزمة.
الحل يكمن في الاستجابة للمطالب المحقة للحراك والمؤيدة من المجتمع، ومن ثم الذهاب إلى الحوار والاحتكام إلى الشعب وصندوق الانتخابات والتغيير من خلالها، وليتوقف الحديث بنظرية الشارعيْن التي تجر البلاد إلى الكوارث، لأنها لم تقنع أحداً وتسهم في تعميق الهوة مع شركاء النضال الطويل.
دون تأتأة..تشكيل خلية عمل فلسطينية باتت "فوق ضرورية"!
11 أكتوبر 2023