بعيداً عن السياسة وقريباً منها..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

بقلم: حسن خضر

من الروايات التي تستحق القراءة رواية للمصري ـ الكندي عمر العقّاد كتبها بالإنكليزية، ونشرها في العام 2017 بعنوان «حرب أميركية»، تُرجمت إلى 13 لغة، منها العربية لحسن الحظ. معالجة اليوم لا تستهدف تحليل الرواية بل تتناول إشارات وردت فيها إلى «إمبراطورية البوعزيزي».
تنتمي الرواية إلى جنس الديستوبيا، أي أدب القيامة ونهايات الأيام، الذي لا يعني في التقليد الأدبي والمخيال الثقافي الحديثين نهاية العالم، بالضرورة، بل العيش في عالم أصبح فيه الكابوس هو القاعدة، وكل ما عداه استثناء.
هذا الجنس شائع في الآداب الغربية، وازداد الاهتمام به على نحو خاص بعد صعود الشعبويات في الغرب، وظاهرة ترامب في أميركا.
سنفكّر في يوم ما، معاً، لماذا لم ولا يزدهر هذا الجنس الروائي في آداب العربية. ربما لأن عالم الكابوس لا يندرج في بند المُحتمل، بل هو اليومي، والمَعيش، والواقعي، والحقيقي الوحيد، في عالم العرب الأحياء.
على أي حال، تتخيّل الرواية حرباً أهلية أميركية تقع في نهايات هذا القرن، وتمتد قرابة عقدين من الزمن، وتكون نتيجتها تفكك الولايات المتحدة كدولة مركزية، وانهيار الحضارة، وهيمنة الميليشيات، وغرق المدن الساحلية، ووفاة قرابة مائة مليون من البشر نتيجة الأوبئة والحرب، وعيش ما تبقى منهم على الهبات والمساعدات القادمة من إمبراطوريات بعيدة كالصين، وإمبراطورية البوعزيزي.
نالت الرواية استحسان النقّاد في الغرب، وقارنها البعض برواية فيليب روث «المؤامرة على أميركا»، بل وصنّفتها هيئة الإذاعة البريطانية ضمن مائة رواية أسهمت «في تشكيل عالمنا».
أُعيدُ التذكير بهذا التصنيف لا لأن القارئ، عموماً، يثق بالأفكار أكثر إذا أشاد بها آخرون وحسب، ولكن لأن احتمال الحرب الأهلية الأميركية جدي وواقعي، أيضاً.
ولا يحتاج الأمر سوداوية من نوع خاص لإدراك أن جمر الحرب الأهلية الأولى (1861 - 1865) ما زال حيّاً تحت الرماد، وأن الصدع الكبير بين الجنوبيين والشماليين لم يضق مع مرور الوقت بل يزداد اتساعاً.
وبالمقارنة مع العالم العربي فإن الإنجيليين يقوّضون سلام وسلامة الإمبراطورية الأميركية، كما قوّض الإسلام السياسي سلام وسلامة العالم العربي. ولا فرق، في هذا المضمار، بين «فوكس نيوز» الأميركية، و»الجزيرة» القطرية، ولا بين الجمهوريين الأميركيين، واليمين القومي والديني في العالم العربي.
وكما في كل مكان آخر، يستيقظ الجمر تحت الرماد، ويصبح الصدع ملموساً ومؤلماً، لأن واقعاً جديداً يُحرّض على استعادة ذاكرة وذكريات هذا وذاك، ويُضفي عليها بريقاً أيديولوجياً جديداً ومتجدداً.
والواقع الجديد، في هذا الصدد، هو تغيّر المناخ، وما ينطوي عليه من تحوّلات اقتصادية وديمغرافية هائلة. لذا، تنشب الحرب الأهلية الجديدة نتيجة هجرة الناس من المدن الساحلية، التي غرقت، أو دمّرتها العواصف، كما حدث للعاصمة واشنطن، ومنع الحكومة الفيدرالية استخراج النفط للحد من تدهور المناخ.
وما يعنينا، الآن، أن «إمبراطورية البوعزيزي»، التي تغطي مساحة العالم العربي، وعاصمتها لحسن الحظ هي القاهرة، قد نشأت، كما تقول الرواية، بعد الموجة الخامسة للربيع العربي، التي دمجت مختلف البلدان الناطقة بالعربية في دولة عُظمى واحدة، أصبحت لاعباً رئيساً في سياسة ومصير العالم. ليس هذا وحسب، بل وتتدخل، أيضاً، في الشأن الداخلي الأميركي. (هذا ما قد نأتي على تفصيله في معالجة لاحقة).
نعرف، طبعاً، أن الشاب التونسي، الذي أشعل النار في نفسه، وبدأت به موجة الربيع الأولى، قبل عقد من الزمن، كان اسمه محمد البوعزيزي. كما نعرف، بالتأكيد، أن احتمال تسمية دولة كهذه باسمه بعيد جداً عن الواقع، ناهيك عن حقيقة أن وجود الدولة الإمبراطورية نفسها مجرّد «شطحة أدبية»، فنحن أولاً وأخيراً نقرأ نصاً روائياً من صنع الخيال، ولا نحكم عليه بمنطق التحليل السياسي.
ولكن، يبقى أن اللافت هو الربط في العمل الروائي بين نشوء الإمبراطورية، والموجة الأولى للربيع ممثلة بمَن أطلق من حيث لا يدري ولا يشاء شرارتها الأولى، وحقيقة أن ثمة موجات لاحقة، وقد شهدنا الثانية منها، بالفعل، في السودان والجزائر. والثالثة، والرابعة، والخامسة في الطريق، بالتأكيد، بصرف النظر عن الفترة الزمنية الفاصلة بين موجة سابقة ولاحقة.
ومع هذه الاعتبارات في البال، يبقى أن ما يرد من إشارات في النصوص الأدبية، وما يتجلى من مقاربات مُتخيّلة لاحتمالات مختلفة، لا ينتمي إلى وهم اسمه التنبؤ بالمستقبل، ولا بالوهم البرومثيوسي، الذي تملّك أذهان منتجي الأدب والمثقفين العرب، وغيرهم، في عقود مضت، بل ينم عن إسقاط تحيّزات شخصية على واقع ما، مع التذكير بحقيقة أن عملية كهذه، إذا تمّت على يد متمكّن من أدواته بالمعنى الأدبي والفكري، تستند إلى قراءة بخطوط عريضة للواقع. فمن المنطقي، مثلاً، في قراءة بخطوط عريضة، أن تكون مصر مركزاً لإمبراطورية محتملة، وأن تكون القاهرة عاصمة لها.
ومعنى المنطقي، هنا، ما ينسجم مع إكراهات الجغرافيا والتاريخ، فطموح تركيا وإيران الإمبراطوري، في الشرق الأوسط، كما مصر (بصرف النظر عن وضعها الحالي) منطقي ومشروع، أما الوهم الإمبراطوري الإسرائيلي، وفي ذيله العربي (الذي يكاد يكون فاوستياً تماماً) ففيه ما يُعاند الجغرافيا والتاريخ. وفي ختام معالجة كهذه نكون قد ابتعدنا عن السياسة، واقتربنا منها، في آن.