تجفيف الدعم الغربي يعود إلى تآكل شرعية السلطة وتفاقم ميولها الاستبدادية واستنكافها عن إصلاح النظام الفلسطيني وتجديده.
أجندة إسرائيلية بطبيعة استراتيجية تتحرك بثبات وتضيف منجزاً جديداً كل يوم لسجل إنجازاتها المتحققة على حساب الأرض والحقوق الفلسطينية.
مبرر وجود السلطة توفير الأمن والاستقرار لإسرائيل وخفض كلف الاحتلال وقلقه وباتت عبئاً على شعب فلسطين ومشروعه الوطني أياً كان تعريفاته ومضامينه.
أجندة سلطة فلسطينية تكتفي بإدارة أزمات محلية دون لحظة توقف أمام مستقبل المشروع الوطني وغرق في “يوميات” إدارة فلسطينية كقربة مثقوبة كلما نفخت فيها اتسعت ثقوبها.
هادي عمرو يطلق إنذارًا لإسرائيل: أدركوا السلطة قبل أن تطال شرارات الفوضى والانهيار ثيابكم وغرف نومكم لا حباً بالسلطة بل غيرة على إسرائيل وأمنها واستقرارها.
أزمة اقتصادية خانقة تنذر بعدم قدرة السلطة على دفع رواتب أجهزتها وأزمة سياسية بعد انتفاضة القدس وسيفها وجريمة تصفية نزار بنات وأزمة شرعية بعد تأجيل الانتخابات.
******
أما الغابة فهي السلطة الفلسطينية بعد أن جفّت ينابيعها، وباتت تقف على شفا حافة من “الحريق الكبير” الذي ينتظر عود ثقاب، وأما القول، فهو–بتصرف– للمبعوث الأمريكي هادي عمرو، وليس لأحدٍ آخر، وكان يُبْلغ به محدثيه الإسرائيليين، بعد أن فرغ من لقاءات مكثفة مع مسؤولين فلسطينيين في رام الله.
قال هادي عمرو إنه لم ير السلطة يوماً على هذا الحال من السوء، ملخصاً الأسباب في ثلاثة:
- 1. أزمة اقتصادية خانقة، تنذر بعدم قدرة السلطة على دفع رواتب أجهزتها المدنية والأمنية.
- أزمة سياسية داخلية، في إشارة على ما يبدو إلى حال السلطة بعد انتفاضة القدس وسيفها، وتحديداً منذ جريمة تصفية نزار بنات وما ترتب عليها من أفعال وردود أفعال.
- أزمة شرعية، تضع السلطة في موقع الشك والارتياب من قبل ناخبيها، وفي تلك إشارة إلى تأجيل الانتخابات وتقادم الشرعيات.
كل ما أورده هادي عمرو في تشخيص حال السلطة والأسباب التي أدت إليه، صحيح، بل وصحيح تماماً، بيد أنه تجاهل، عامداً على الأرجح، سبباً رابعا، هو الأكثر أهمية مما ذُكر:
مأزق مشروع السلطة وانسداد أفق حل الدولتين، وتآكل فرص استئناف مسار تفاوضي جاد وجدي، وتزايد نهم الجانب الإسرائيلي للاستيطان والضم والاقتلاع وتدمير المنازل وطرد السكان، إلى غير ما هنالك مما يترتب على “نظام الفصل العنصري” المفروض على الشعب الفلسطيني، المصحوب بـ”جرائم حرب” وفقاً للقانون الدولي الإنساني.
هنا “مربط الفرس”، ومن هذا المأزق، تتناسل بقية الأزمات والمآزق.
ومما قاله هادي عمرو كذلك، إنه لم يأت ليتوسل الأطراف فعل ما يتعين عليها فعله، فهي أعرف بالتزاماتها وأدرى بواجباتها. ومن باب أولى، فهو لم يأت ليضغط على الأطراف أو ليفرض عليها الوفاء بالتزاماتها.
كل ما صدر عن عمرو هادي، جاء بمثابة تحذير من أن انهيار السلطة لن تتوقف تداعيته عن حدود المجتمع والكيان الفلسطينيين، بل ستطال الإسرائيليين وتطاول أمنهم واستقرارهم.
بصريح العبارة، هادي عمرو يطلق صفارة إنذار للإسرائيليين بقوله: أدركوا السلطة قبل أن تطال شرارات الفوضى والانهيار الكبيرين ثيابكم وغرف نومكم، لا حباً بالسلطة وشعبها بالطبع، بل غيرة على إسرائيليين وأرواحهم، وصوناً لأمن إسرائيل واستقرارها.
لا جديد في الأمر، فهذه هي فلسفة السياسية الأمريكية في كل ما يتعلق بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، يعيد انتاجها ديمقراطيون وجمهوريون بلهجات مختلفة، حتى وإن كان موفدوهم من أصول عربية أو حتى فلسطينية.
السلطة في مأزق اقتصادي، تتناقص إيراداتها بتراجع الجباية والمساعدات الخارجية، وتتدهور مع تزايد الاقتطاعات الإسرائيلية من أموال المقاصة.
السلطة استنفذت رصيدها الائتماني لدى المصارف الفلسطينية وبلغ السحب على المكشوف، حدود الخطر، وإن استمر الركون على الاستدانة بأسعار الفائدة المرتفعة، سينتهي إلى إفلاس السلطة وانهيار النظام المصرفي الفلسطيني.
لا أحد شديد الحماسة لاستمرار الضخ المالي في صناديقها “المثقوبة”، العرب أداور ظهورهم منذ زمن، وأوروبا استنفذت سقف مساعداتها، سيما وهي ترى “مزاريب” الهدر والفساد على حالها، وترى النظام الفلسطيني تتآكل شرعياته.
فيما حكومات اليمين الإسرائيلي تتفنن في البحث عن أبواب تلجأ إليها للسطو على أموال المقاصة، سيما بعد أن ارتضت السلطة باستلام “أموال المقاصة المنقوصة”، عملاً بقاعدة “الكحل أفضل من العمى”.
وأكاد أجزم، أن من بين الأسباب التي أدت إلى تجفيف منابع الدعم الخارجي، الغربي عموماً، إنما يعود إلى تآكل شرعية السلطة وتفاقم ميولها الاستبدادية، واستنكافها عن إصلاح النظام الفلسطيني وتجديده.
هنا لا ينفع الحديث عن “مؤامرة خارجية” على السلطة، بل يتعين عليها النظر إلى يتوجب فعله، لجهة تقديم نموذج أفضل في الحكم والإدارة والقيادة، حتى لا نقول في قيادة النضال لكنس الاحتلال، فتلكم مهمة لم نعد نرتجيها من النظام الفلسطيني القائم.
تقف السلطة على عتبات انهيار، فيما مشاريع الضم الزاحف وطرد السكان من القدس وتهجيرهم وهدم منازلهم تسير على قدم وساق، وفيما عدد متزايد من الخونة والعملاء يتجرؤون على “تسريب” بيوتهم في القدس للمنظمات الصهيونية دونما خشية أو خوف أو خجل بعد أن فقدت السلطة قدرتها “الردعية” وتخلت عن أنيابها ومخالبها.
إسرائيل تتقدم في القدس والمنطقة (ج) وتتغول على منطقتي (أ ، ب) بالضفة الغربية كذلك، فيما السلطة غارقة في بحث يائس عن رواتب آخر الشهر، وجدل بائس حول التعديل أو التغيير الوزاري.
ثمة أجندتان متقابلتان: أجندة إسرائيلية ذات طبيعة استراتيجية، تتحرك بثبات، وتضيف منجزاً جديداً كل يوم، إلى سجل إنجازاتها المتحققة على حساب الأرض والحقوق الفلسطينية..
وأجندة فلسطينية، تكتفي بإدارة ما يطرأ من أزمات محلية، من دون لحظة توقف أمام مستقبل المشروع الوطني ومآلاته، فلا وقت لذلك على ما يبدو، في ظل الغرق في “يوميات” الإدارة الفلسطينية، التي باتت كالقربة المثقوبة والمتهرئة، كلما نفخت فيها، كلما اتسعت ثقوبها.
ولولا خشية من فوضى يدفع ثمنها الفلسطينيون في الغابة الجافة، لقلنا ما أحوجنا إلى عود ثقاب!
فالسلطة التي يتلخص مبرر وجودها اليوم، بتوفير الأمن والاستقرار لإسرائيل، وتقليص كلف الاحتلال وقلقه، لم تعد مطلوبة ولا مرغوبة، بل باتت عبئاً على شعب فلسطين ومشروعه الوطني، أياً كان تعريفات هذا المشروع ومضامينه.