تعيد دراسة جديدة صدرت هذه الأيام عن “معهد أبحاث الأمن القومي” في جامعة تل أبيب حول “ديمغرافية إسرائيل في مطلع العقد الجديد: المعاني والأبعاد القومية” للباحث شموئيل إيفن، والتي نقدّم لها قراءة موسعة ومعمقة هذا الأسبوع، تسليط الضوء على موضوع الديمغرافيا، القديم- المتجدّد باستمرار، والذي ليس مبالغة القول إنه لم يغب لحظةً عن أجندة إسرائيل، وقبل إقامتها كان في صلب أجندة الحركة الصهيونية.
وكان الباحث المذكور نفسه، وهو مسؤول كبير سابق في جهاز الاستخبارات وحالياً باحث زميل في “معهد أبحاث الأمن القومي”، أعدّ قبل ذلك دراسة نُشرت في مجلة صادرة عن وزارة شؤون الاستخبارات الإسرائيلية في شهر تموز 2020، أشار في سياقها إلى أن إسرائيل تعتبر الديمغرافيا مجال اهتمام “ذا أهمية من الدرجة الأولى بالنسبة إلى أمنها القومي”. ومن جملة ما أكده فيها أيضاً، أن إسرائيل تعرّف نفسها، بموجب “قانون أساس القومية”، الذي سُنّ في تموز 2018، بأنها دولة قومية للشعب اليهودي، وهو تعريف يلزمها بأن تحافظ على ميزان ديمغرافي تكون فيه أغلبية يهودية مُطلقة. ومن هنا تنبع أهمية الحفاظ على ميزان إيجابي لهجرة اليهود من الدياسبورا إلى إسرائيل، فضلاً عن حقيقة أن الميزان الديمغرافي بين اليهود والفلسطينيين يبقى ذا تأثير كبير في مسألة الحدود الدائمة لدولة الاحتلال، سواء في سياق المفاوضات مع الفلسطينيين، أو في جوهر الخطاب السياسي الإسرائيلي.
ولا يغيب عن بالنا أن إسرائيل تنتهج وسائل متعددة تحت غطاء الحفاظ على أمنها القو
مي في السياق الديمغرافي. ومن هذه الوسائل بالوسع أن نشير إلى ما يلي على سبيل المثال لا الحصر: أولاً، سنّ قوانين وأنظمة لضمان طابعها اليهودي في مقدمها “قانون العودة” و”قانون القومية”؛ ثانياً، تطبيق سياسة صارمة فيما يتعلق بتأشيرات الدخول إلى الدولة بإشراف سلطة السكان والهجرة والأجهزة الأمنية؛ ثالثاً، إنشاء جدران عازلة أبرزها جدار الفصل مع مناطق الضفة الغربية المحتلة؛ رابعاً، توثيق العلاقات مع الجاليات اليهودية في العالم وتشجيع هجرة اليهود إلى إسرائيل. وفي سبيل ذلك أقيمت وزارتان هما وزارة الهجرة والاستيعاب، ووزارة شؤون الشتات (لا تزالان قائمتين في الحكومة الإسرائيلية الحالية الـ36، حكومة بينيت- لبيد)، بالإضافة إلى نشاط الوكالة اليهودية.
وفي سعي الاستراتيجية الإسرائيلية الصهيونية لـ”ضمان أغلبية يهودية”، يتم التركيز على الجغرافيا، ولا سيما على منطقتي الجليل والنقب في أراضي 1948، وأنشئت لأجل هاتين المنطقتين وزارة خاصة اسمها “وزارة تطوير الأطراف، النقب والجليل”. وتشدّد هذه الوزارة، كما سبق أن أشرنا مرات عدة، هنا وفي منابر أخرى، على أن الوجود اليهودي في الجليل والنقب استراتيجي، غير أنه مُهدّد بـ”خطر ديمغرافي ملموس” يتمثل بنزعة السكان اليهود إلى تفضيل السكن في “متروبولين غوش دان” (وسط إسرائيل)، والهجرة التدريجية من المنطقتين. وفيما تشكل منطقة “متروبولين غوش دان”، الممتدة من مدينة نتانيا في الشمال وحتى مدينة رحوبوت في الجنوب، نحو 7% فقط من مساحة إسرائيل، ويسكن فيها اليوم نحو 40.6% من مجموع السكان، تشكل منطقة النقب، الممتدة من غور بئر السبع وحتى مدينة إيلات، نحو 60% من مساحة إسرائيل ويسكن فيها نحو 8% فقط من مجموع السكان في إسرائيل، بينما تشكل منطقة الجليل، الممتدة من الحدود الإسرائيلية ـ اللبنانية حتى مرج بن عامر، نحو 16% من مساحة دولة إسرائيل ويسكن فيها نحو 15% فقط من مجموع سكان الدولة. وقبل أعوام قليلة خلصت دراسة صادرة كذلك عن “معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي” إلى أن اختلال الميزان الديمغرافي في الجليل والنقب “ينطوي على خطر جيوسياسي يتهدّد إسرائيل”!
غير أن ما يحيل إليه موضوع الديمغرافيا وما يطرأ عليه من تحوّلات في إسرائيل، غير منحصر فقط في محور الميزان السكاني، أو في غاية الحفاظ على أغلبية يهودية مطلقة، بل أيضاً ينسحب على طابع الدولة في المستقبل، نتيجة ما يحدث داخل التركيبة السكانية من تغيّرات متواترة. وثمة الكثير من التوقعات المرتبطة بهذا الطابع المرتقب، لعل أبرزها أن إسرائيل سائرة في طريقها لأن تكون دولة أكثر دينية، أي أكثر يهودية حتى مما هي عليه الآن، وأقل ديمقراطية، أي أقل مما هي عليه كديمقراطية ذات قدر كبير من الشكلية.
وتستند هذه التوقعات بالأساس إلى تقديرات بشأن ازدياد نسبة اليهود الحريديم، المتشددين دينياً، والمتدينين، على خلفية ارتفاع نسبة التكاثر الطبيعي في صفوفهم في مقابل انخفاضها في صفوف اليهود غير الحريديم. وهذا هو ما تتطرّق إليه الدراسة الجديدة كذلك. وسبقتها دراسات لفتت على نحو خاص إلى أن ما يجري في إسرائيل، على صعيد التغيرات الديمغرافية، يشفّ عن سيرورة معكوسة لما جرى في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث جرى العمل في الأغلبية الساحقة من أقطارها على فكّ الارتباط بين الدين والقوموية، والتأكيد على فصل الدين عن الدولة. وفي الوقت عينه لفتت إلى أنه فضلاً عن ذلك، لا تمتلك المجموعات المختلفة في إسرائيل تقاليد ديمقراطية على مدى طويل من الزمن يمكن أن يتم التأسيس عليها وترسيخها للمدى البعيد، كما أن الروح الثقافية العلمانية في الدولة تبدو هشّة.