منذ إخلاء قطاع غزة في عام 2005 وحتى اليوم يتعرض قطاع غزة لحروب عديدة تخللتها اجتياحات وأعمال قصف متكررة وأشكال عديدة من العدوان المترافق مع حصار ظالم يستمر منذ عام 2007، أي منذ الانقلاب حتى هذه اللحظة، يخف تارة ويتم تشديده تارة ولكنه ثابت وجزء من حياة المواطنين في القطاع. وفي كل الحروب التي خاضها الغزيون أعلنت الفصائل الفلسطينية الانتصار على العدو، هذا حصل في اجتياح 2006 و2007 و2008-2009، وفي حربي 2012 و2014. وأخيراً في المعركة المسماة من قبل فصائل المقاومة «سيف القدس» في أيار 2021. وكل هذه الانتصارات مجتمعة لم تغير واقع غزة نحو الأفضل بل العكس هو الصحيح. وحتى في المعركة الأخيرة التي حظيت بدعم وتعاطف شعبيين كبيرين لارتباطها بموضوع القدس، أصبح الناس يتوقون للعودة للوضع الذي كان قائماً قبل هذه الحرب.
في الواقع لا تخلو معركة أو حرب خاضها الفلسطينيون من انجاز ما، ومعركة «سيف القدس» الأخيرة بدون شك ليست استثناء بل هي ربما تكون الأهم على مستوى الإنجازات، التي نذكر منها التأييد والتضامن الدولي المنقطع النظير مع الشعب الفلسطيني والانتقادات الحادة لإسرائيل في مختلف أرجاء العالم وخاصة في الولايات المتحدة وأوروبا. حتى أن الرئيس الأميركي جو بايدن اضطر للحديث مطولاً مع الرئيس محمود عباس بعد فترة انتظار طويلة لحصول محادثة بين الرئيسين. عدا عن التأثير الذي لعبته على مستوى توحيد الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده. وحتى لو كانت قضية القدس حتى التي وحدت الفلسطينيين وكان العامل المؤثر في اندلاع انتفاضة في المدن والبلدات المختلطة في إسرائيل قبل الحرب، ولكن العدوان الإسرائيلي على المدنيين وتفجير المنازل فوق رؤوس قاطنيها وقتل عائلات بكاملها حرك مشاعر كل ابناء الشعب الفلسطيني وكل الأحرار في العالم من أجل القيام بدعم واسناد الفلسطينيين بوسائل الاحتجاجات الشعبية العارمة والتضامن عبر وسائل الاعلام وشبكات التواصل الاجتماعي في أروع تظاهرة كونية متنوعة الأوجه.
غير أن إعلان الفصائل في غزة الانتصار على إسرائيل ومحاولة استثمار ما تم من مواجهات في الداخل قوبل بإصرار إسرائيلي على اثبات أن العكس هو الصحيح، فلا المعادلة التي تحدثت عنها الفصائل وخاصة حركة «حماس» والتي تقول أن «ما بعد هذه المعركة ليس كما قبلها» وخاصة فيما يتعلق بالوضع في القدس المحتلة تحققت، ولا الحصار تم رفعه، بالعكس أصبح مشدداً أكثر مما مضى، بل هناك تغير واضح في الموقف الإسرائيلي من مسألة التعامل مع قطاع غزة بدءاً من إدخال المنحة القطرية وحركة المواطنين والبضائع وحتى عودة القيود المتعلقة بإدخال المواد التي يصنفونها تحت بند «مزدوجة الاستخدام»، والتي يمكن أن تدخل في صناعة الاسلحة أو المعدات التي تستخدمها الفصائل الفلسطينية. وبين الإعلانات المتضادة بالانتصار يبقى الحصار سيد الموقف وتبقى غزة تعاني من حصار خانق ووضع اقتصادي مأساوي، يضاف إليه الدمار الكبير الذي حصل في العدوان على القطاع والذي بحاجة إلى إعادة إعمار عاجل.
الحديث هنا لا يهدف إلى التقليل من الانجازات التي تحققت في المعارك والمعركة الأخيرة على وجه الخصوص، ولكنه يهدف إلى وضع الأمور في نصابها الصحيح حتى ينجح الفلسطينيون في استثمار التغيرات الدولية والإقليمية بصورة جيدة تحقق انتصارات ملموسة على طريق انهاء الاحتلال والاستقلال الوطني. وللحقيقة لا يمكن الوصول إلى اي اختراق حقيقي في ظل الواقع المأساوي الذي نعيشه في ظل الانقسام وغياب الإطار الوطني الجامع الذي تتمثل فيه وحدة الأداة القيادية ووحدة النضال والعمل ضد الاحتلال، ولمراكمة وتطوير الإنجازات التي يجري تحقيقها في الميادين. ولننظر بصورة موضوعية إلى حالنا. حتى الآن لا يوجد تثبيت لوقف إطلاق نار دائم أو طويل الأمد ولا يوجد اتفاق على آلية إعادة الإعمار وشروطه، بما في ذلك ربط المسألة برفع الحصار الشامل عن قطاع غزة. والوضع الداخلي في كل من غزة والضفة المحتلة سيئ للغاية والسلطات تتآكل وتفقد شعبيتها، كما أن الظروف القائمة في القدس تزداد سوءاً وتعقيداً، وحتى انجازات المقاومة الشعبية في «الشيخ جراح» واحياء القدس الأخرى لا تتقدم. ولا يوجد تغيير ملموس في السياسة الإسرائيلية. كما أنه لا يوجد أفق لحوار وطني جاد ومصالحة ووحدة وطنية شاملة، وبعد تأجيل الانتخابات لا يبدو أنه ستكون هناك إجراءات جدية لإعادة بناء المؤسسات وترتيب أوضاعها بما يعيد الحد الأدنى من ثقة الجماهير بالمؤسسة، ويعيد لنا احترام المجتمع الدولي ويسمح بتطوير الأداء، بما يساهم في حل المشاكل التنموية المستعصية في كافة أرجاء الوطن.
للأسف لا نزال بعيدين عن تحقيق انتصار بالمعنى الحقيقي للكلمة وكل انجاز معنوي أو جزئي نحققه هنا أو هناك لا نستطيع أن نبني عليه ويذهب بسبب وضعنا الداخلي مع الريح، ونعود في كل مرة إلى المربع الأول ولا نتقدم على الرغم من التضحيات الكبيرة والنضالات المضنية التي يخوضها شعبنا في مختلف الميادين، فهل لنا أن نصحو وندرك اننا لم نعد أولوية في خضم الاهتمامات الدولية والتحديات التي يشهدها العالم من حولنا. وأن عودتنا إلى مركز الاهتمام الدولي مرتبط أولاً بأدائنا ووضعنا الداخلي وقدرتنا على التأثير في الأجندات الإقليمية والدولية؟!