نستكمل، اليوم، القسم الثاني من التعقيب على كتاب مايكل وولف "أغلبية ساحقة" عن أيام ترامب الرئاسية الأخيرة. أوردتُ في القسم الأوّل تساؤلات عن كيفية وصول شخص، بمؤهلات متدنية، كالمذكور إلى سدة الحكم في دولة ديمقراطية هي الأقوى في العالم، واسترعت انتباهي، على نحو خاص، إشارة وردت في الكتاب عن جاريد كوشنر، زوج ابنته، وكبير مستشاريه، بوصفه أحد العقلاء القلائل في إدارة ترامب.
وبالاستناد إلى ما جاء في كتاب وولف، وكتابات آخرين، يمكن الاستنتاج أن كوشنر كان صانع السياسة الحقيقي، بقدر ما يتعلّق الأمر بالشرق الأوسط، ويبدو أنه كان الثاني، من حيث الأهمية، بعد ترامب في البيت الأبيض. والواقع أن دلالات كثيرة تعزز من قيمة هذا الاستنتاج منذ وقت مبكّر في رئاسة ترامب.
فمجلة فوربس، ذائعة الصيت في عالم المال والأعمال، وضعت صورة كوشنر على غلافها مع عبارة تقول: "هذا الشخص مكّن ترامب من الفوز في الانتخابات" كان هذا بعيد انتخابات العام 2016. ومجلة نيوزويك، ذائعة الصيت، أيضاً، نشرت في مطلع العام 2017 صورة غلاف لكوشنر بعنوان "الرئيس ـ الصهر". ولا أجد ما يبرر الاستطراد في هذا الشأن فالشواهد كثيرة.
كوشنر، هذا، هو مهندس "سلام إبراهيم"، الذي كان، وما زال، محاولة ليكودية إسرائيلية استعانت بالعضلات الأميركية، السياسية والعسكرية والمالية، لإعادة هندسة الشرق الأوسط. وأعتقد أنها المحاولة الثانية بعد محاولة بوش الابن والمحافظين الجدد الفاشلة، التي تجلّت في مشروع احتلال العراق. وهي أشد طموحاً وجموحاً من الأولى لتكريس إسرائيل قوّة إقليمية سائدة، وحارسة للأمن والنظام الإقليميين.
المذكور صاحب مليارات، ويشتغل في العقارات، أيضاً. وقد اتُهم أبوه، في وقت سابق، بالنصب والخداع، وحكم عليه بالسجن. والمهم، في هذا الشأن، أن كوشنر الأب من كبار ممولي الجمهوريين الأميركيين، وبنيامين نتنياهو، وقد ربطته علاقة خاصة بالأخير، واستضافه في بيته، وفي الليلة التي قضاها هناك نام في حجرة، وعلى سرير، كوشنر الابن.
وعندما انتقل كوشنر الابن إلى نيويورك، واشترى له الأب جريدة هناك، بناء على نصيحة المحامين، لتبييض سيرة واسم العائلة، صاحبة الإمبراطورية العقارية، بعد فضيحة السجن، لم يهتم الابن الذي أصبح مالكاً للجريدة ومديراً لها بشيء سوى أخبار إسرائيل.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بخبرة الابن (الذي تعلّم في هارفارد رغم أن شروط القبول لم تنطبق عليه إلا بعد هبة مالية من الأب) ومدى اطلاعه على شؤون العالم، ينبغي التذكير أنه نال ثقة ورعاية هنري كيسنجر، الذي لم يبخل عليه بالنصائح. هذه تفاصيل صغيرة، بالتأكيد، ولكنها ذات دلالة، إذا أردنا فهم ما هو أبعد من "السلام" و"الرخاء" في الشرق الأوسط، وغيره من الكلام الفارغ عن "سلام إبراهيم".
ولكن صورة كهذه لن تكتمل دون التذكير بالعلاقة الخاصة التجارية، بالتأكيد، وربما الشخصية، التي ربطت كوشنر الابن بعدد من الحكّام ورجال المال والأعمال في الخليج. يرجع تاريخ هذه العلاقة إلى ما قبل وصول ترامب إلى البيت الأبيض، ولكنها تعززت بعد وصوله بشكل ملحوظ، وتأثرت بهذا القدر أو ذاك بالتنافس والصراع بين الشركاء في الخليج.
يمثّل كل ما تقدّم عناصر ضرورية لا في تسليط الضوء على خلفيات مُعتمة "لسلام إبراهيم" وحسب، ولكن (وهذا هو الأهم، بقدر ما أرى) على وصول ترامب إلى سدة الرئاسة، أيضاً. وهذا هو الجانب الذي يكاد يكون غائباً عن تحليلات الأميركيين، ذات الطابع الإخباري في أغلب الأحيان، للعوامل التي أسهمت في تحويل ترامب من شخصية تلفزيونية محدودة المعارف والقدرات (ناهيك عن النرجسية والكذب)، ورجل أعمال من الدرجة الثانية في سلّم الإمبراطوريات المالية والتجارية الأميركية، إلى عنوان للصراع على روح أميركا وهويتها، وإلى رئيس لأميركا ورمز لليمين والشعبوية في تلك البلاد.
والمهم أن هذا هو الجانب الأقل عرضة للضوء في ظاهرة صعود ترامب. أعني تشابك العلاقات والمصالح بين نخب مالية وتجارية عابرة للحدود والقوميات والأيديولوجيات في زمن العولمة، ونشوء شبكات متحالفة ومتضامنة، ومدى تأثير تلك الشبكات بشكل غير مسبوق على السياسات المحلية، والعلاقات الدولية. لا يمكن فهم هذا الأمر دون فهم عميق لمعنى العولمة والليبرالية الجديدة.
على أي حال، حقق الكثيرون سواء بصفة رسمية، كما في تحقيق مولر، أو في سياق اجتهادات بحثية، في إمكانية أن يكون ترامب "مرشحاً منشورياً"، أي أن يكون عميلاً لقوّة خارجية أو أكثر. وهناك الكثير من التحليلات والاجتهادات في هذا الشأن.
من المحزن والمُخيف، بالتأكيد، أن يكون تحلل الحقل السياسي الأميركي قد تدهور إلى هذا الحد. ولكن من الحماقة، أيضاً، الخروج باستنتاجات نهائية في هذا الخصوص، ففي تحوّلات المجتمع والسياسة الأميركيين ما يفسّر كيف ولماذا وبأي سعر أصبح ترامب رئيساً لأميركا.
بيد أن هذا كله لا ينفي وجود الكثير من الزوايا المعتمة. ولا ينفي احتمال أن تكون أكثر من قوّة خارجية قد استثمرت في ظاهرة ترامب، وراهنت عليها، بقدر ما حاول ترامب نفسه النصب عليها، والاستفادة منها، والاستثمار فيها.
ومع ذلك، إذا كانت ثمّة من فائدة في التذكير بكوشنر الابن، تتجلى في القلب منها ضرورة التفكير في، والكلام عن، "سلام إبراهيم" بوصفه وليد الزوايا المعتمة، التي لم تتضح معالمها بعد، وضرورة الربط بين وصول ترامب إلى البيت الأبيض، ومشروع هندسة الشرق الأوسط، كأمرَين متلازمَين. وفي الحالتين لن يستقيم التحليل إذا غاب عنه كوشنر.