قال أحدُ الطلاب الناجحين في الثانوية العامة بنسبة مئوية عالية مفتخرا، ومعبِّرا تعبيرا صادقا عن سيكولوجيا شهادة «التوجيهي» الراهنة: «الحمد لله فقد رفعتُ رأسَ أسرتي عاليا»!
لخَّص هذا الناجح بإيجاز طقسَ شهادة «التوجيهي» القبلي، وهو يُشير إلى أن هذه الشهادة لا تزالُ عبئا على كاهل الأبناء، وطقسا، أسريا، وعشائريا، وقبليا!
سيكلوجيا «التوجيهي» القبلية دفعتْ إلى تأسيس سوقٍ إلكتروني، يزدهر وينتعش في اليوم الأول والثاني، ثم يُصاب بالكساد في اليوم الثالث، ثم يُهاجم المحتجون والناقدون الاحتفالات في اليوم الرابع، وفي اليوم الخامس، تظهر التحليلات الفقهية التربوية والتعليمية، ثم يُسدل الستار على هذا المهرجان، دون برنامج لتغيير الواقع، وإنهاء ما يُسمى موسم شهادة الثانوية العامة المقرر في النظام المدرسي التقليدي، وأن نقتبس من دول العالم التي أنهت هذا النظام، وحولته إلى نظامٍ عاديّ محسوب بالساعات، يجري كل أيام السنة، وليس طقسا قبليا محددا بامتحان موحد في زمن محدد!
في هذا السوق، ينشر أفراد القبائل في صفحاتهم الرقمية في اليوم الأول من الفخر صور النابغين من أبنائهم وأقاربهم، ثم يزينونها بالنسب المئوية العالية، وفي اليوم الثاني ينشرون صور بطاقات النجاح ومجموع الدرجات في كل مادة من المواد، وفي اليوم الثالث ينشر رؤساء الأسر والقبائل أسماء المتفوقين في أبناء القبيلة والأسرة والعشيرة، وينتظرون بفارغ الصبر ردود أفعال القارئين، لإبراز قوة العشيرة والقبيلة، وللإحساس بالرفعة والسمو!
هكذا تحولت شهادة الثانوية العامة من شهادة مفترق طريق تعليمية ثقافية عادية، تقود إلى المستقبل، إلى مشكلة نفسية عند الأبناء قد تؤدي إلى مرضٍ خطير، صارتْ عباءة قبلية عند الآباء، ونيشانا أسريا، تاجا على رؤوس الآباء، أصبحتْ نسبُ النجاح مركز الفخر والمباهاة، مع العلم أن كل المحتفلين مقتنعون بأن احتفالاتهم عبثية، لأنَّهم مؤمنون بفشل نظام التعليم الحشوي والمقررات المكروهة، فمَن يتفوق في هذا النظام ليس نابغةً، هو فقط آلة دقيقة نجحت في السير وفق هذا النظام، ولا علاقة، إذاً، للنسب المئوية بالتميُّز، والإبداع، والذكاء إلا في إعادة المحفوظات!
كثيرون أصيبوا بالدهشة لحصول أبنائهم على هذه النسب المئوية العالية، وما أكثر المحتفلين بنتيجة أبنائهم احتفالا قبليا تقليديا للنكاية في المحيط، بإزعاجهم بالمتفجرات والرصاص، هم أيضا يُرددون بعد الاحتفال: «إن طقوس الاحتفالات عبثية، تشير إلى قبلية المجتمع»!
هناك أيضا ساخرون من طقوس «التوجيهي» القبلية، يستغربون؛ لأن قبائل فلسطين وأُسرها تحتفل احتفالات صاخبة بشهادة «التوجيهي» وهي الأدنى، ولا يحتفلون بالأعلى؛ بمن يحصلون على شهادات الماجستير والدكتوراه!
كانت شهادة الثانوية العامة في ستينيات القرن الماضي مفترقَ طريقٍ تُتيح لحاملها أن يخرج من إطار التعليم الرسمي الموجود في الوطن إلى فضاء التعليم الجامعي الحُر في الدول الأخرى، عندما لم تكن هناك جامعات في وطننا، أي أنها مفترق ثقافي وتوعوي يفصل بين نظامين مختلفين، فهي شهادة التحرر، تتيح لحامل شهادة «التوجيهي» أن يُسافر، ورغم ذلك لم نشهد احتفالاتٍ صاخبةً بإزعاج الآخرين!
أما اليوم فإن الناجحين يخرجون من مدارسهم الثانوية، ليلتحقوا بجامعاتهم المجاورة لمدارسهم!
كانتْ الجامعاتُ في القرن الماضي مؤسساتٍ ثقافيةً حرة، تُعيدُ صياغة الدارسين، وتُشرفُ على صقلهم، ثقافيا، وتوعويا، وحضاريا، ليس بواسطة المحفوظات والمناهج المقررة، والمحاضرات المنسوخة، فلا كتاب مقرر، ولا منهج ملخص، ولا تماثل بين الجامعات في الثقافة، حتى وإن تشابهت أسماؤها، لذلك كانتْ الشهادةُ الممنوحةُ لهم صادقةً!