انسحابات… كابول… بيروت… رام الله

حجم الخط

بقلم:نبيل عمرو

 

في مثل هذه الايام من العام 1982 كانت القيادة الفلسطينية اللبنانية المشتركة تفاوض الامريكيين من خلال مبعوثهم رفيع المستوى اللبناني الاصل فيليب حبيب، على صيغة مغادرة القوات الفلسطينية لبيروت بعد ان اصبح البقاء فيها مستحيلا، ليس بسبب حصارها من قبل الجيش الاسرائيلي وانما لأن العالم كله طالب الفلسطينيين بالمغادرة، اضافة الى غياب اي افق للانتصار العسكري في معركة لا توازن فيها للقوى التقليدية ، واستمرت شهورا وسجل التاريخ انها اطول معركة مواجهة عربية اسرائيلية.
حتى الذين رغبوا بالتدخل اخفقوا وخسروا والمعني هنا سورية، وهنالك الذين وعدوا ولم ينفذوا وعدهم والمعني هنا الثورة الايرانية الوليدة آنذاك ، ورغم ان التحالف اللبناني الفلسطيني ادار معركة ناجحة في الميدان، الا ان التفوق العسكري والتحالفي الاسرائيلي ارغم ياسر عرفات وبفعل الدمار الهائل الذي لحق بأجمل عاصمة عربية على القول لو كانت بيروت مدينة فلسطينية لما خرجنا منها.
وعندما تتحكم موازين القوى التقليدية بخلاصات المعارك تكون البطولات مجرد مآثر يكتبها التاريخ في حواشيه ، الا ان هذه المآثر التي جرى التغني بها وتأليف ملاحم شعرية حولها، لم تحجب حقيقة موضوعية مفادها ان الثورة الفلسطينية خسرت اهم ساحة من ساحاتها بل آخر ساحة لها في بلاد الشام .
كان خروجاً نهائياً من جغرافيا العمل العسكري الفلسطيني الذي قادته منظمة التحرير ضد اسرائيل ودخولا الى جغرافيا الحل السياسي معها.
ادار جنرال الثورة الاول اللواء سعد صايل وهو الاكثر تأهيلا عسكرياً عملية الخروج المنظم من بيروت، ورغم الرغبة الاسرائيلية الجامحة في اذلال قوات الثورة الفلسطينية وقلب الايقاع البطولي لها الى ايقاع فوضوي استسلامي، الا ان الخروج الفلسطيني اتخذ سمة تستحق ان تسجل كإنجاز في مجال الحروب الكبرى وهي مغادرة جسدت انتقالا من ساحة الى اخرى وليس هرولة فوضوية لا تحدث الا مع المهزومين والمستسلمين.
مضى على هذه الحرب قرابة اربعة عقود ويبدو انها نسيت تحت كثافة المستجدات ذات الطابع الكارثي التي المت بالحالة الفلسطينية في ايامنا هذه .
اعود الى العنوان… الذي يجسد على بعض غرابة فيه للوهلة الاولى عناوين لدروس ينبغي تمثلها ذلك ان الحياة لا تتوقف عند معركة ناجحة واخرى خاسرة، والحقوق التي تناضل الشعوب من اجلها لا تسقط لا بالتقادم ولا بالانتكاسات والهزائم.
بتزامن لعبت الاقدار دورا فيه وقعت مقتلة جنين مقتلة الفجر التي راح ضحيتها اربعة شباب شهداء وخمسة جرحى ورغم انشغال العالم بتطورات الهروب الامريكي الدراماتيكي من افغانستان الا ان مقتلة جنين لم تتوارى خلف الحدث الاكبر بل اخذت بعض ما تستحق من اهتمام ذلك ان قدر الفلسطينيين ان لا يحصلو على خبر في وسيلة اعلامية الا اذا كان مكتوبا بدم ابنائهم .
الدرس المشترك هو… اذا نجح الامريكيون في اتخاذ قرار مغادرة افغانستان واخفقوا في كيفية اخراجه، فكيف ينجح الفلسطينيون في قرار الخروج من المعادلة اليائسة التي خسائرها افدح بكثير من مزاياها
نعم.. ان الفلسطينيين بحاجة الى انسحاب منظم ليس من معركة عسكرية هي ليست بمستوى معارك افغانستان بل من الدائرة العبثية التي تتمادى اسرائيل في تضييقها وجعلها عديمة الجدوى .
كيف ينسحبون من حالة ادمان للكوارث واخطرها تلك التي بلغت مستوى الفضيحة وهي الانقسام.
ثم كيف ينسحبون من رعاية طبقتهم السياسية لحالة الجمود المستحكمة واللف والدوران في الحلقات المفرغة داخليا وخارجيا.
ثم كيف ينسحبون من سجن الماضي الذي يحملونه معهم في الحاضر كما لو ان الحياة تجمدت وراء قضبانه.

الخطوة الاولى هي الاقرار بأن الناس والبلد والقضية يعيشون ازمة تتعمق كل يوم، والخطوة الثانية ان ينصرف الجهد وبنسبة مائة بالمائة لمعالجة شؤون البيت الذي نعيش فيه، والذي ينازعنا عليه خصم قوي مستبد لا يريدنا فيه اكثر من سكان امر واقع بلا حقوق ولا هوية ولا كيانية ، والخطوة الثالثة ولعلها الاخيرة ان تتوقف طبقتنا السياسية عن اعتناق وسيلة تشتيت الكرة بعيدا بالقائها تارة في حجر المجتمع الدولي وتارة اخرى في حجر اوروبا وامريكا ودائما نسبة كل شيء الى مؤامرة يحيكها وينفذها الاعداء.
نحن لسنا افغان الشرق الاوسط، ولسنا طالبان التي ان عرفت كيف تصل الى هدفها الاول فهي لا تعرف ما سيحدث في اليوم التالي، غير ان المشترك بين الحالتين المختلفتين جذريا هو امريكا الفاشلة هناك والناجحة هنا ليس فيما نريد وانما فيما تريد والفرق شاسع، فهل من خطة انسحاب آمن من الدائرة العبثية هذا سؤال موجه الى من يقدمون انفسهم كصناع للقرار الفلسطيني وآمل ان يتجاوز الجواب سقف تعديل وزاري.