الانسحاب الأمريكي من أفغانستان... الأسباب والتداعيات

حجم الخط

بقلم منصور أبو كريم

 

 

 بعد مئات المليارات من الدولارات وعشرات الآلاف من القتلى من الجيش الأمريكي والتحالف الدولي، انسحبت الولايات المتحدة من العراق وسلمته على طبق من ذهب لإيران ومن ثم انسحبت من أفغانستان وسلمته بنفس الطريقة لطالبان، أمريكا تخرج من الشرق الأوسط تاركه خلفها إرث ثقيل من الصراعات والحروب والنزاعات في إطار حرب الكل ضد الكل.

ربما تكون هذه إحدى أهداف الحرب الأمريكية على المنطقة في إطار نظرية الفوضى الخلاقة أي الفوضى التي تخلق واقع جديد حتى لو أدى ذلك إلى حدوث أزمات.

وهذا ما حدث عند التوقيع على اتفاقيات السلام المجانية بين إسرائيل وبعض الدول العربية، فالفوضى الخلاقة أنتجت واقع جواستراتيجي جديد يقوم على أساس جعل إسرائيل حليف لبعض الدول العربية في مواجهة التهديدات الخارجية.

أسباب الانسحاب الأمريكي

الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وقبله العراق جاء حسب الاستراتيجية الأمريكية الجديدة للموازنة بين تحديات مكافحة الإرهاب ومواجهة الصعود الكبير للقوى الدولية الأخرى، الرؤية الأمريكية في هذا الإطار تقوم على أساس خفض ميزانية الدفاع والانفاق العسكري لصالح دعم الاقتصاد الامريكي الذي يواجه تحديات كبيرة على المستوى الدولي من الصين وروسيا ودول أخرى.

وسجلت الولايات المتحدة الذروة السابقة للإنفاق العسكري عام 2011 (أكثر من 855 مليار دولار)، بحجة تمويل سحب القوات المنتشرة في الخارج، ثم بدأت بتقليص الإنفاق لأول مرة منذ نهاية الحرب الباردة، وإن بشكل محدود، وصولا إلى 736.4 مليار دولار عام 2015، قبل أن تبدأ مجددا بزيادة الإنفاق عاما بعد آخر، وصولا إلى أعتاب التريليون دولار، وبحسب تقرير لموقع "ذا بالانس"

المتخصص بالشؤون المالية للولايات المتحدة، فإن الإنفاق العسكري للبلاد خلال السنة المالية الجارية قد يصل إلى 934 مليار دولار، أي بمعدل 1.777 مليون دولار كل دقيقة. ويشكل الإنفاق العسكري العبء الأكبر على كاهل المديونية الأمريكية، إذ إن الإنفاق على الأمان الاجتماعي تتم تغطيته بشكل كامل من الضرائب وريع استثمارات صناديق التقاعد، بينما تشكل الميزانية الدفاعية إضافة خالصة إلى المديونية كل عام.

وينقسم الإنفاق العسكري الأمريكي الإجمالي إلى أربع مجالات، هي: الميزانية الأساسية لوزارة الدفاع (636.4 مليار دولار)، العمليات العسكرية في الخارج وخاصة ضد تنظيم الدولة (69 مليار دولار)، مخصصات إضافية دعما للميزانية الأساسية لوزارة الدفاع عن طريق أجسام حكومية أخرى (228.4 مليار دولار)، ومخصصات إضافية للعمليات العسكرية الخارجية لم يتم تحديد مبلغ لها هذا العام.

ويشكل الارتفاع المتواصل للدين العام الأمريكي هاجسًا يسيطر على قطاع كبير من المواطنين، ويغذي الأفكار اليمينية الانكفائية واليسارية الرافضة للحروب، على السواء، لا سيما منذ أن باتت الديون تتجاوز الناتج القومي الإجمالي عام 2013، وصولا إلى أكثر من 27.56 تريليون دولار بحلول الأول من كانون الثاني/ يناير 2021.

وأنفقت الولايات المتحدة أكثر من 2 تريليون دولار على الحرب في أفغانستان خلال 20 عامًا، منذ الـ 11 سبتمبر / أيلول 2001. وأظهرت وثائق أمريكية أن الميزانية التي أُنفقت في أفغانستان تجاوزت الـ 300 مليون دولار يوميا، لمدة عقدين، أي حوالي 50 ألف دولار لكل فرد من سكان أفغانستان البالغ عددهم 40 مليون نسمة .

في خطابه للأمريكيين بعد سيطرة حرة طالبان على معظم الأراضي الأفغانية قال الرئيس الأمريكي جو بايدن، إن الولايات المتحدة لم تكن لتستقر في أفغانستان للأبد وأنه كان يتبع الاتفاق الذي أبرمه الرئيس السابق دونالد ترامب مع طالبان لسحب القوات الأمريكية. وشدد بايدن على أنه ليس نادما على تنفيذ قرار الانسحاب.

الولايات والمتحدة الأمريكية وجدت في استمرار حربها وتواجدها المنفرد في العراق وأفغانستان أمرًا مرهقًا للاقتصاد الأمريكي، ويساهم في تعزيز التقدم الصيني على المستوى الاقتصادي، كون أن الأخيرة لا تخوض حروبًا بل تستثمر في البنية التحتية والشركات في معظم دول العالم، وهذا أمر مقلق بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية في سيبل بقاء الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي.

خلال العقدين الماضيين التي خاضت فيهما الولايات المتحدة الحرب في العراق وأفغانستان تكبدت أمريكا خسائر اقتصادية كبيرة بينما نما الاقتصاد الصيني بصورة كبيرة وقاد يقترب من مصادرة الاقتصاد العالمي، فقد نما الاقتصاد الصيني من 2% من اجمالي الناتج القومي العالمي إلى إن وصل 18% عام 2017، وهذا الأمر يشكل تهديد جدي للهيمنة الأمريكية على النظام الدولي.
الاستراتيجية الجديدة ترتكز على اساس المؤامة بين تحديات مكافحة الإرهاب ودعم الاقتصاد الامريكي بهدف مواجهة تحدي الصعود الصيني على المستوى الدولي، وهي تقوم على أساس احتفاظ بقوات نخبة من القوات الخاصة لدعم عمليات التدخل السريع والاعتماد على أنظمة المراقبة والسيطرة الجوية (طائرات بدون طيار) ودعم الحلفاء المحليين والإقليميين، ودفع القوى الدولية الأخرى لتحمل مسؤوليتها؛ لأن واشنطن لن تستمر في لعب دور شرطي المنطقة.

هذه الاستراتيجية فيها الكثير من استراتيجية إدارة أوباما التي كانت تعتمد على مفهوم (القيادة من الخلف)، التي ارتكزت فيها على تقليل التدخل العسكري في المنطقة، لعدم تكرار مأزق حربي العراق وأفغانستان، لذلك رفضت إدارة أوباما التدخل عسكريًا في الأزمة السورية.، وأكتفت بدور المراقب للقوى الدولية والإقليمية.

تداعيات الانسحاب الأمريكي من أفغانستان

كما كان للانسحاب الأمريكي من العراق تداعيات وجواستراتيجية على منطقة الشرق الأوسط، بعد أن سيطرة إيران على العراق ودول أخرى نتيجة الاخلال بموازين القوى الإقليمي لصالح النظام الإيراني، من المنتظر أن يكون للانسحاب الأمريكي من أفغانستان تداعيات على منطقة الشرق الأوسط والإقليم.

بمجر الإعلان عن بدأ انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان بدأت حركة طالبان تفرض سيطرتها سيطرت حركة طالبان على مساحات من الأراضي خلال الشهرين الماضيين(يونيو وأغسطس 2021) فقد تجاوزت المساحات التي كانت تسيطر عليها عندما كانت الحركة في قمة قوتها قبل الإطاحة بها عن حكم افغانستان في عام 2001, حيثُ استطاع مسلحو حركة طالبان الانتشار في جميع أنحاء البلاد.

انهيار الحكومة الأفغانية بدأ منذ اللحظة الأولى التي عقدت فيها الولايات المتحدة محادثات مع المكتب السياسي لحركة طالبان في الدوحة، إدارة ترامب الجمهورية بدأت مباحثات مع الحركة للتحضير للانسحاب الأمريكي، وتم تنفيذ الانسحاب من قبل إدارة بايدن الديمقراطية بشكل سريع ومتعجل، كما بالضبط مع الانسحاب الأمريكي من العراق، قرار الانسحاب اتخذته إدارة بوش الابن ونفذته إدارة باراك أوباما.

خلال العام الأخير لإدارة ترامب تم التوصل لاتفاق بين الولايات المتحدة الأمريكية والمكتب السياسي لحركة طالبان على إدارة المرحلة الانتقالية بشرط تخلي الحركة عن أعمال العنف، لكن التيار المتشدد في الحركة رفض الاتفاق وأصر على تنفيذ هجمات على القوات الافغاني، لذلك انهار الجزء الأكبر من الاتفاق وبقي الجزء المتعلق بالعلاقات الأمريكية مع حركة طالبان فيما يتعلق يتعهد الحركة بعد استخدام الأراضي الافغانية على تهديد الأمن القومي الأمريكي.

الخروج المذل للقوات الأمريكية من أفغانستان ومن قبل العراق يعني نهاية لمشروع القرن الأمريكي الجديد الذي نظر له فريق المحافظين الجدد زمن إدارة الرئيس جورج بوش الأبن، المشروع كان يقوم على أساس أن انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي يمنح الولايات المتحدة القدرة على فرض إرادتها على العالم أجمع بدون النظر لفكرة التوافق الدولي أو القانون الدولي.

بناء على هذه الفكرة طرحت إدارة جورج بوش مشروع الشرق الأوسط الكبير، ومن ثم طرحت فكرة الجديد، وكان يهدف إلى إحداث تحولات وتغيرات وجواستراتيجية في المنطقة تصب في صالح أمريكا وإسرائيل، لكن التحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية التي تسببت فيها حربي العراق وأفغانستان جلعت من فكرة القرن الأمريكي والشرق الأوسط عبارة عن كابوس كبير.

الخروج الأمريكي من العراق وافغانستان لا يمثل نهاية لمشروع القرن الأمريكي فحسب بل يشكل بداية نهاية تفرد الولايات بزعامة النظام الدولي، كون التحولات التي قد تترتب عليه كفيلة ببروز واقع إقليمي ودولي مغاير عن الواقع الذي تمخض عنه انهيار جدار برلين، فالصين وروسيا بدأت في البحث عن خيارات التعامل مع الوضع الجديد الذي تسببت به الخروج المتعجل للقوات الأمريكية من أفغانستان.

كما من المنتظر أن يمنح هذه الخروج قوة دفع للقوى المعارضة للوجود الأمريكي في المنطقة لمزيد من سلوك تهديد الأمن والاستقرار في المنطقة، مثل الحركات الموالية لإيران التي تعمل على تهديد أمن واستقرار دول الخليج، كما سوف يرسل إشارات سلبية لمفاوضات فيينا حول البرنامج النووي الإيراني، فإيران سوف تتمسك بمواقفها المتشددة تجاه قضايا الخلاف عقب هذا الخروج الفوضوي للولايات المتحدة من أفغانستان، كما سوف يساهم في شعور حلفاء أمريكا بالقلق نتيجة المنعرجات الحادة التي اتخذتها الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط ومنطقة الخليج العربي خلال العقد الماضي.
أيضًا من المنتظر أن يعيد تنظيم القاعدة نشاطه في أفغانستان والمناطق المجاورة، مستفيدًا من سيطرة حركة طالبان على معظم الأراضي الأفغانية، فبالرغم من تعهد حركة طالبان عدم استخدام الأراضي الأفغانية في تهديد الأمن القومي الأمريكي إلا أن عودة تنظيم القاعدة والجماعات المنبثقة عنه مثل داعش وغيرها من التنظيمات الإرهابية أمر بات محتمل، ما قد يشكل تهديد للأمن الإقليمي والدولي.

على الرغم من ضرورة الأخذ بعين الاعتبار الدوافع والأسباب التي دفعت الولايات المتحدة للخروج من العراق وأفغانستان، وهي دافع وأسباب سياسية واقتصادية، إلا أن الواقع الجديد التي ترتب على هذا الخروج قد يكون أكثر سوءً من استمرار الوجود نفسه، فصورة الولايات المتحدة كدولة عظمة باتت محل تشكيك في ضو هذا الفشل الكبير على المستوى الاستراتيجي، وهذا قد يكون أكثر تأثيرًا في منظومة العلاقات الدولية لقادم السنوات، نظرًا للضرر الكبير الذي أصاب صورة القوى العظمى في حربها ضد حركة طالبان.
خلاصة القول، ما يمكن التأكيد عليه عشية خروج القوات الأمريكية من أفغانستان أن عصر أمريكا في الشرق الأوسط قد انتهى، فهي موجودة بشكل اقل للحفاظ على الممرات البحرية وطرق التجارة العالمية، وحماية أمن إسرائيل بعد أن فقد بترول المنطقة أهميته.

لذلك على دول وشعوب المنطقة البحث مقاربات جديدة لحفظ الأمن الإقليمي لا تعتمد على الولايات المتحدة الأمريكية بعد خذلت أمريكا صورة نفسها وحلفائها بهذه الانسحابات المتعجلة.