ليس «كوفيد 19» وحده من يهدد البشرية ويلقي بها إلى التهلكة، بل هناك عوامل كثيرة تهدد الكرة الأرضية وفي قلبها الإنسان الذي سعى إلى مصالحه وطغى وعاث فساداً في الأرض، دون أي اعتبار للآثار المدمرة التي يتركها خلفه وتؤثر بقوة على حاضره قبل مستقبله.
الكرة الأرضية تشهد اليوم ارتفاعاً ملحوظاً في درجات الحرارة، إلى حد اشتعال الحرائق في بلدان كثيرة لم تكن يوماً على «خط النار»، بمعنى أنها لا تصنف من الدول الحارة الملاصقة أو على طول خط الاستواء الحراري، ونسمع أن الحرائق وارتفاع درجات الحرارة طالت الدول الباردة.
لا يختلف أحد على أن الإنسان هو المسؤول بالدرجة الأولى عن هذا الاحترار المتزايد، وثمة شواهد كثيرة على الاستغلال السيئ للطبيعة والاستعجال في توليد الطاقة بكافة أشكالها ومصادرها على حساب التوازن البيئي، ما أدى ويؤدي إلى اضطرابات مستمرة في المناخ.
الطبيعة غاضبة من الإنسان لأنه أخلّ بشكل كبير في هذا التوازن البيئي لتعظيم مصالحه، وكل فترة تخرج تقارير من الأمم المتحدة وهيئاتها المتفرعة تحذر من ارتفاع درجات الحرارة إلى ما يزيد عن درجة ونصف مئوية عن معدلاتها الطبيعية الحالية، على اعتبار أن ذلك سيقود إلى المزيد من الكوارث الطبيعية.
في كل الأحوال، التقارير الدولية المرتبطة بالتغير المناخي تقول إن العالم تخطى اليوم درجة مئوية واحدة، وأن أي إضافات أخرى ستؤدي إلى عواقب غير محسوبة، وهذا بالتأكيد من شأنه أن يؤثر على نوعية الحياة، إذ هناك علاقة وثيقة بين الاحتباس الحراري وجودة الأوكسجين ومصادر الغذاء والمياه.
العالم كله مُطالب حسب مناشدات الأمم المتحدة، بعدم تخطي نصف درجة مئوية عن الدرجة الحالية فوق درجات الحرارة الآن، ومع ذلك لا تضع الدول الكبرى والصغيرة كل طاقتها لتنظيف الأرض من مخلفاتها وتقليل البصمة الكربونية، بما يشمل إيجاد حلول لحرق الطاقة التقليدية من فحم ونفط وغاز.
وحدهما الصين والولايات المتحدة الأميركية من أكثر الدول استخداماً للموارد الطبيعية، فالتنافس العالمي يتطلب قدرة كبيرة على الإنتاج الكمي والنوعي، وثمة مشروعات ضخمة تستثمر فيها بكين اليوم لربط آسيا وأوروبا في سبيل السيطرة الكاملة على السوق العالمي.
هناك أصوات عالية جداً تطالب الدول المتقدمة والنامية بالتمهل في أنشطتها المضرة للبيئة والتفكير في آليات تجنب احترار الأرض، مع التقدير لهذه الأصوات إلا أن رجع الصدى غير مجدي كثيراً، وهناك بعض المبادرات الخجولة لتبني مصطلحات فضفاضة من قبيل المدن الخضراء والاقتصاد الأخضر وحماية النظام والتوازن البيئي.
حتى أن الأفراد عموماً مصابون بلوثة الاحتباس الحراري، من جهة استهلاكهم غير الرشيد لمصادر الطاقة والمياه بوعي أو بدون وعي، ومن جهة تأثرهم الشديد بالتغير المناخي الذي يلاحقهم في قوتهم ومخزون الموارد الطبيعية لديهم الذي يتضاءل يوماً بعد يوم.
فلسطين واحدة من الدول التي تأثرت بقوة من التغير المناخي، حيث تصيبها كل عام موجات الحرارة الشديدة التي لم تعهدها من قبل، والطامة الكبرى أنها لا تقف على موارد «ماكنة» تقيها حر الصيف وغضب الشتاء، وعلى الأغلب أن هذا التغير المتدرج للحرارة قد يضعف جهازها المناعي من مخزون مائي وموارد غذائية.
أبسط ما يمكن القول في هذا المقام «ودّع هريرة إن الركب مرتحل». باختصار العالم يتفرج على الكوارث الطبيعية والحرائق في اليونان وتركيا والولايات المتحدة وفلسطين المحتلة، والفيضانات في ألمانيا والصين والحرارة المرتفعة في إيطاليا وكندا، ولا يعطيها تلك الأولوية القصوى كما يفعل لتحقيق مصالحه الشخصية.
ثم إن الاحتباس الحراري ليس مسؤولية دولية فحسب، ولا هو مسؤولية الدول الكبرى أساس هذا البلاء، وإنما الاحتباس هو مسؤولية الجميع، أفراداً ومسؤولين ودول، والهدف في الأساس تقليل البصمة الكربونية بدءاً من المنزل إلى المؤسسات بمختلف تفرعاتها وأحجامها، إلى المصانع والمراكز الكبرى ووسائل النقل.
في يوم الجمعة 29 حزيران 2018 رصد موقع «فلايت رادار 24» حسب قناة العربية أكثر من 200 ألف رحلة جوية لطائرات مدنية وتجارية هبطت وأقلعت في يوم واحد، في حين كشف عن وجود 19 ألف طائرة في السماء في نفس الوقت، وهذه الإحصائيات تترجم مدى تلوث الهواء في الجو نتيجة حركة الطيران اليومية والانبعاثات الكربونية الناتجة عن المحركات الضخمة.
هذا في الجو، ماذا عن المركبات وشبكات النقل البرية والملاحية البحرية، ماذا عن المصانع القديمة التي تعمل بالوقود الأحفوري؟ كل هذه الصناعات تفتح النار على كوكب الأرض وكل ما فوقه وتحته، وليس من المنطق القول إنه يجب وقف الطائرات لأنها تضر بالبيئة أو وقف تصنيع المركبات بسبب انبعاثاتها الكربونية؟
المعالجة تأتي بتنسيق السياسات على مستوى الدول لخفض الانبعاثات الكربونية، هذا كخطوة أولى ومن ثم إعادة النظر في مسألة الانتقال السريع من الاعتماد على الطاقة التقليدية إلى المتجددة، وفي هذا نقاش وجدال طويل مع دول ومؤسسات لها مصلحة في التباطؤ عن تحديث خط إنتاجها بما ينسجم مع متطلبات التنمية المستدامة بموارد وطاقة نظيفة.
وسط حالة عدم اليقين التي يعيشها العالم اليوم بسبب فيروس «كورونا» وتداعياته الاقتصادية والاجتماعية، من الصعب القول إن الدول مجتمعة على قلب رجل واحد فيما يخص الاحتباس الحراري، خصوصاً وأن التنافس الدولي فيما بينها لم ولن يتوقف وهو مدفوع بزيادة معدلات الإنتاج مهما كانت النتائج.
لكن على مستوى الأفراد من الممكن أن نشهد بداية صحوة في مسألة إدارة واستخدام الموارد المتاحة، والسبب أن «كورونا» غيّر كثيراً من سلوكيات الناس وجعلهم أكثر تعقلاً في ترشيد الاستهلاك وتغيير نمط الحياة، ذلك أن «كورونا» والتغير المناخي وجهين لعملة واحدة.
كوفيد-19 هو نتاج تأثير البشر على الطبيعة، حاله حال التغير المناخي الذي يشتد كلما أضر الإنسان بأُمّنا الأرض، وليس هناك من مخرج له سوى التعايش مع الطبيعة والاحتفاظ بمسافة بين تحقيق مصالحه وعدم الإخلال بالتوازن البيئي.