ثمّة ما نفخــر بـه

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

بقلم: عبد الغني سلامة

بدعوة كريمة من رئيس جامعة خضوري، حضرتُ احتفالها بتكريم كل من شارك في تصنيع أول جهاز تنفس اصطناعي.. وأثناء المكالمة الهاتفية قال لي د. نور أبو الرب: لا أطلب منك أن تكتب شيئاً معيناً، ولا مديحاً ولا ثناء.. فقط احضر وشاهد بعينك، ثم اكتب ما تشاء إن أردت.
رغم أني تحمستُ للدعوة، إلا أني كنت خائفاً أن أُصاب بخيبة أمل، سيما أن أنباءً سابقة تم تداولها عن تمكّن إحدى الجامعات الفلسطينية من صناعة جهاز تنفس اصطناعي.. وتبين أنه جهاز بدائي، غير فعال بشكل كامل لمرضى «كورونا»، بل وحسب النكات الشعبية عبارة عن منفاخ.. علماً أن الفكرة كانت آنذاك تصميم جهاز بسيط لحل مؤقت لمشكلة فرضتها حالة الطوارئ إبان اندلاع أزمة «كورونا»، فكان التصميم والتكنولوجيا نسخاً عن الأجهزة الموجودة.
مع مشاهدة الجهاز الجديد في جامعة خضوري كانت أول مفاجأة، ولكنها سارة؛ فالجهاز يبدو حقيقياً (من حيث الشكل)، ومعقداً، وبشكل أنيق، أسلاك، وخراطيم، وشاشات تملؤها بيانات متعددة.. وبعد الاطلاع على كتيب التشغيل بدأت أدرك أنه بالفعل جهاز متكامل، وعلى درجة عالية من التعقيد، وأن تصنيعه ليس بالأمر الهيّن.. ولكن بما أنني لست خبيراً، كان يجب الاستماع لما يقوله صنّاع الجهاز، ومعرفة آراء وتقييمات أصحاب الاختصاص من خبراء في الأجهزة الطبية، ومن أطباء ومهندسين.. فكانت المفاجأة مدهشة، وتدعو للفخر، لكن المفاجأة الأهم ستأتي لاحقاً.
في كلمته أمام الحفل الكبير الذي ضم نخبة من الأطباء والمختصين وممثلين عن وزارة الصحة، ومؤسسة المواصفات.. شرح لنا البروفيسور نور الدين أبو الرب قصة تصنيع الجهاز: «كانت أول خطوة الاطلاع على أفضل الأجهزة العالمية (اليابانية والألمانية والأميركية)، ثم إعداد الأبحاث والمخططات الهندسية، ثم مرحلة التجارب الأولية، وعرضها على مختصين في مؤسسة المواصفات والمقاييس، لكنهم رفضوها، وقد شكل لنا ذلك الرفض حافزاً للاستمرار وإعادة المحاولة، ثم خضنا المرحلتين الثانية والثالثة، مع تواصل دائم مع المهندسين والأطباء لتقييم العمل، إلى أن اجتزنا كل الاختبارات، وصار الجهاز جاهزاً للاستخدام، بعد سنة ونصف السنة من التجارب والعمل المستمر، واصل فيه فريق العمل الليل بالنهار، حتى أنهم كانوا يبيتون في المختبر، ويدفعون من جيبوهم كل ما لزم لإنجاح الأمر، مع تمويل جزئي من الجامعة، مروا خلالها بسلسلة من الإخفاقات والإحباطات، وواجههم الكثير من العراقيل والصعوبات والإغلاقات ونقص مصادر التمويل، لكن عزيمتهم كانت أقوى من كل ذلك».
الجهاز من أوله لآخره صناعة فلسطينية، صممه ونفذه أربعة طلبة من جامعة خضوري، أصغرهم عمره 23 سنة، وأكبرهم 49 سنة، وهم نخبة مختارة من مهندسي الميكاترونيكس (تخصص ممزوج بين الكهرباء والإلكترونيك والميكانيك والأتمتة، يركز على الروبوتات والآلات والذكاء الصناعي)، وهم: يزيد علاونة، ومحمد سلامة، وعلي شريدة، ومفيد علاونة، بإشراف ومتابعة مباشرة ودعم حثيث من رئيس الجامعة.
صحيح أن فريق العمل من جامعة خضوري كان هو الأساس، إلا أنّ جهات عديدة ساهمت بتطويره، ومعالجة النواقص والسلبيات، وتوفير القطع اللازمة، وإبداء الملاحظات والاقتراحات، والمشاركة في تجارب التقييم.. منهم أطباء في مجمع فلسطين الطبي، والمستشفى الاستشاري، والعربي التخصصي، ومهندسون مختصون، وجنود مجهولون من إخوتنا في الداخل الذي قاموا بتوريد بعض القطع الحيوية.
خضع الجهاز للتجريب والفحص السريري لمدة مائة يوم متتالية في المستشفى الاستشاري، وجاء متطابقاً مع كافة المعايير التقنية الطبية والهندسية، وحصل على الشهادات والاعتمادات من قبل جهات الاختصاص الفلسطينية والدولية، مثل هيئة المواصفات والمقاييس، وشركات الإنتاج الطبية العالمية، وأخصائيي واستشاريي التخدير وأطباء الطوارئ في المستشفيات العامة والخاصة.
وفي تقييمه للجهاز قال المهندس محمود صندوقة وهو خبير ومختص بالأجهزة الطبية، ومورد معتمد لأجهزة التنفس لكافة المستشفيات الفلسطينية والإسرائيلية: الجهاز متعدد الوظائف، ينافس ويتفوق على أهم الأجهزة العالمية المماثلة، بل ويمتاز عنها بانفراده بخصائص وميزات لا تتوفر في أي جهاز مماثل، مثل قدرته العالية على التدفق (300 لتر بالدقيقة، مقابل 180 لتراً في الأجهزة العالمية)، وأيضاً تحمله الكبير لضغط العمل بحيث أنه لا يسخن، وإمكانية ربطة بأي هاتف ذكي، أو جهاز حاسوب، بحيث يستطيع الطبيب متابعة المريض والجهاز من أي مكان، وفي كل وقت، وامتلاكه نظام إنذار متطوراً، فمثلاً في حال نفاد الأوكسجين (كما في الحادثة المؤسفة في مستشفى السلط)، أو انقطاع الكهرباء أو حصول مضاعفات مفاجئة للمريض أو أي خلل آخر، فإن الجهاز يعطي تنبيهاً للممرضين، وإذا تأخرت استجابتهم يتصل تلقائياً بالطبيب، وفي أسوأ الأحوال يزود المريض بالأوكسجين بما يبقيه حياً إلى حين وصول المساعدة وإصلاح الخلل.
والأهم أن «الميكسر» و»الصمامات» و»البستونات» ابتكار فلسطيني بامتياز، وهي عبارة عن جهاز إضافي ملحق، تخلط الأوكسجين بالهواء بالنسب المطلوبة بمنتهى الدقة، وتستطيع تحديد حاجة المريض تلقائياً من الأوكسجين بعد النفس الأول.. وهي نفس التقنية المستخدمة في مختبرات «ناسا». والجدير بالذكر أن معظم القطع الحيوية في الجهاز تم تصنيعها محلياً بتكاليف زهيدة جداً، وقد أكد عدد من الأطباء المختصين أن الجهاز آمن جداً للمرضى، ويمتاز بدقة وكفاءة عالية، ويعد بالفعل إنجازاً نوعياً تفوقت فيه فلسطين على العديد من دول العالم.
وكانت وزيرة الصحة مي الكيلة قد شكلت لجنة متخصصة لمتابعة وضع الجهاز وإبداء الملاحظات، كما كلّف الرئيس محمود عباس، رئيس المجلس الأعلى للإبداع والتميز، عدنان سمارة، للإشراف على المشروع، وقد أشاد الجميع بأداء وعمل الجهاز، وبأنه متميز في الدقة ويضاهي أفضل الأجهزة العالمية.
وفي كلمة مقتضبة عبر الهاتف، هنّأ الرئيس عباس الجامعة، قائلاً: «شعبنا الفلسطيني غني بالعقول، هذه العقول التي سترفع رؤوسنا في كل مكان بالعالم، هذه العقول ستبني دولة فلسطين».
هذه العقول العبقرية، والطاقات الهائلة، والشباب الطموح، تحتاج دعماً حقيقياً، تحتاج حاضنة تحتويهم وترعاهم، وبيئة مشجعة ليطوروا من خلالها أفكارهم، ويحققوا أحلامهم.. يحتاجون دعماً فعلياً من السلطة، ودعماً مالياً من الأثرياء، ويحتاجون أولاً تغيير المناهج والنظم التعليمية في المدارس والجامعات، لتعلمهم كيف يفكرون ويبتكرون بطرق إبداعية.
أين رجال الأعمال، والشركات الكبرى، والبنوك، وأصحاب الملايين؟ بدلاً من المزاحمة على التقاط صور للإعلام، أو رعاية مشاريع لأغراض الدعاية والإعلان، عليهم إخراج دفاتر شيكاتهم، أو حتى التفكير باستثمار تلك العقول الواعدة.
بالمناسبة، فلسطين ليست فقط أخبار الشهداء والحروب والانتفاضات. فلسطين لديها الكثير، والكثير جداً لتقدمه للعالم، وفي شتى المجالات.
هنيئاً لجامعة خضوري إنجازها المتميز، ومبارك لفلسطين.