كان «الجهاد الأفغاني» حرباً علينا أيضاً..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

بقلم: حسن خضر

نعالج اليوم، وفي أسابيع لاحقة (ما لم يطرأ حدث مفاجئ وكبير) بالنقد والنقض، روايات سائدة، أو خطابات إن شئت، من خلال التذكير بوجود أكثر من رواية لحدث بعينه. والبداية مع أفغانستان، وعلاقة ما يجري هناك بالحرب الباردة، وعلاقة هذا كله بنا.
أسوأ ما في نظرية المؤامرة أنها تفترض للمتآمرين قوّة تكاد تكون شيطانية تماماً، وتُضفي على معتنقي النظرية والقائلين بها امتياز الرؤية في ظلام دامس. وهذه مكافأة معنوية شائعة، وتحت الطلب. ومنشأ الخلل في حالة كهذه استبعاد احتمال عمى بصر وبصيرة الفاعل السياسي، حتى وإن كان من صنّاع السياسة الإمبراطورية.
وقد تجلى هذا كله في "تحليل" احتلال الطالبان لكابول، وانهيار النظام الأفغاني، وخروج الأميركيين المُهين بعد أطول حروب الإمبراطورية هناك. وفي هذا الصدد، استبعد البعض احتمال الهزيمة، واعتبر الخروج نوعاً من صفقة "استلام وتسليم" بين الطالبان والأميركيين، الذين يخططون لاستخدامهم كمخلب قط ضد الصين وإيران، ضمن آخرين.
ولنلاحظ، هنا، التعاضد المنطقي والدلالي بين استبعاد الهزيمة من ناحية، وفرضية الصفقة من ناحية ثانية. فلا يمكن، منطقياً ودلالياً، في نظر هذا البعض أن تجتمع صفقة وهزيمة في آن. بل وثمة ما يشبه قناعة ضمنية بأن قوّة في حجم أميركا، وجبروتها، لا يمكن أن تُهزم، بهذه الطريقة، وعلى أيدي هؤلاء. ومع ذلك، لا تستقيم مرافعة كهذه بقدر ما تسلّط من ضوء على واقع ما، بل بقدر ما تستسلم للمُعتِم فيه.
مثلاً، سبق استخدام "المجاهدين"، آباء الطالبان، كمخلب قط ضد السوفيات في آخر معارك الحرب الباردة، وكانت النتيجة توليد نوع غير مسبوق في تاريخ العالم من "إرهاب الجهاديين"، الذي لم يضرب الروس وحسب، بل وضرب الأميركيين أنفسهم، وما لا يحصى من آخرين.
ومثلاً، وقياساً على سابقة "الجهاد الأفغاني"، ما أدراك أن لعبة مخلب القط المُفترضة على الحدود الصينية والإيرانية لن تخلق مشاكل جديدة سترتد على صنّاع الصفقة أنفسهم. ومثلاً، أيضاً وأيضاً، إمبراطورية "تتآمر" مع أعدائها بعد عشرين عاماً من محاولة القضاء عليهم، هي إمبراطورية تافهة وفاشلة، بالتأكيد، تشتغل بالقطعة، ومن يوم إلى آخر، ولا ترى أبعد من أنفها.
على أي حال، ما غاب، ويغيب، عن قراءة الحدث الأفغاني ضرورة التفكير في دلالة أنه من مخلّفات الحرب الباردة، ونتائجها الكارثية. وبقدر ما يتعلّق الأمر بالعالم العربي (أعني الحواضر في مصر وبلاد الشام والعراق وشمال أفريقيا) لم تظهر حتى الآن قراءة موضوعية، رغم وفرة الشواهد، للعلاقة العضوية بين "الجهاد الأفغاني" ومشروع إجهاض النزوع اليساري الراديكالي في الحواضر في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وقد كانت المسألة الفلسطينية في القلب منه.
الشواهد كثيرة. أكثر من الهم على القلب، كما يُقال. ثمة ما يشبه قطع الليغو الكثيرة والمتناثرة، والتي يمكن أن تكوّن صورة واضحة. فخيار شد الرحال إلى بيشاور في أواخر السبعينيات كان، في جانب منه، محاولة لإجهاض، وقطع الطريق، على غواية الرحيل إلى بيروت، التي تحوّلت إلى عاصمة للراديكاليين العرب في ذلك الحين، وتقاطر عليها منفيون ومطاردون ومناضلون من أربعة أركان الأرض.
(في الكلام عن حال بيروت، كعاصمة للراديكالية العربية، في السبعينيات ما لا يعني تجاهل ما ألحقت بها تلك المكانة من كوارث، ولا يعني إعفاء الراديكاليين انفسهم من المسؤولية. ومع ضرورة التذكير بحقيقة أنها كانت ساحة من ساحات الحرب الباردة، أيضاً).
كذلك، خيار تجنيد الإخوان، والإسلاميين الجدد، في سبيل قضية جديدة، في مكان بعيد (أفغانستان، الشيشان، البوسنة) كان محاولة لإجهاض وقطع الطريق على خيار التفاف اليساريين الماركسيين والقوميين، حول المسألة الفلسطينية، وقضايا التحرر الوطني في مكان قريب، أي العالم العربي. وخيار "الأسلمة"، كان محاولة لإحلال أيديولوجيا ينقسم فيها العالم إلى مؤمنين وكفّار محل أيديولوجيا تقسّم العالم إلى مُستغَلين ومُستغِلين، وفقراء وأغنياء، ومُستعمِرين ومُستعمَرين.
بمعنى أكثر مباشرة: كان "الجهاد الأفغاني" في الجوهر ضد فلسطين والحواضر، أيضاً. كان الاتحاد السوفياتي صديقاً للفلسطينيين والعرب، الذين خاضوا بسلاحه كل حروبهم. وكان النظام الأفغاني، بعد انقلاب الشيوعيين، أفضل ألف مرّة لأفغانستان ومستقبلها، وتطوّرها الحضاري والإنساني من "المجاهدين"، بدليل ما الحقوا بها من دمار على مدار ثلاثة عقود مضت.
ومع هذا كله، اتضح بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وفتح الملفات الرسمية للدولة والحزب، أن السوفيات لم يكونوا معنيين بالتدخل في أفغانستان، وترددوا كثيراً في هذا الشأن، وأن تدخلهم لم يكن جزءاً من محاولة إمبراطورية للزحف في اتجاه المياه الدافئة، كما روّج أعداؤهم في حينها.
والأهم أن شركاء وحلفاء الأميركيين من العرب، وبالتعاون معهم، أزاحوا منذ الأيام الأولى، للحرب على السوفيات في أفغانستان، العناصر الأفغانية المُعتدلة، وشجّعوا أكثر العناصر والقوى تطرفاً بالمعنى الأيديولوجي، ودموية في الميدان.  
أعرف، طبعاً، أن هذه "الرواية" تكاد تكون غائبة، وخارج التداول منذ ثلاثة عقود مضت، لأن المهيمنين على وسائل ومنابر الإعلام في العالم العربي هم صنّاع الرواية المضادة والسائدة، وهم شركاء الأميركيين في الحرب الباردة، وقد خرجوا منتصرين من تلك الحرب. والمهم، وهذه مفارقة بليغة ومؤلمة، أن على الفلسطينيين وعرب الحواضر، الذين كانوا في طليعة الخاسرين، أن يسددوا فواتير وضرائب هزيمتهم وهزيمة حلفائهم السوفيات في الحرب الباردة، بما فيها البلادة التاريخية، وفقدان الذاكرة.