إيران..إيران..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

بقلم: حسن خضر

كان سماع وتبادل النكات مجازفة تحفها المخاطر في عراق صدّام حسين. ولكن، وكما في كل مكان وزمان آخر، كان في السخرية، كفعل من أفعال المقاومة، ما يحول دون مسخ الإنساني في الإنسان. وأذكرُ، في هذا السياق، نكتة سمعتها في بغداد أواخر السبعينيات، في بداية احتدام حملة نظام البعث العراقي الحاكم على "شقيقه" نظام البعث السوري الحاكم، واتهامه بكل ما يخطر ولا يخطر على البال، من أفعال مريبة، ومؤامرات عجيبة، بطريقة سوريالية تماماً.
تقول النكتة إن مُذيعاً في مسابقة اختبار للمعلومات العامّة سأل أحد المشاركين: من الذي شن العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956، فرد المتسابق الألمعي على الفور: سورية.
ولو أعدنا إنتاج هذه المفارقة اللاذعة، بلغة وهموم الحاضر، وسألنا شخصاً من مستهلكي بضاعة وسائل الإعلام الرئيسة والسائدة في العالم العربي، هذه الأيام، عمّن شن العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956، فمن غير المُستغرب أن يكون رد الألمعي: إيران. فما من مشكلة حقيقية أو متوهمة إلا وتُلقى، صباح مساء، على مسامعه، "بالحق والباطل"، على عاتق إيران، والمواطن "الصالح" لا يملك الحق في التفكير بطريقة تخالف كلام حكومته.
يمثل حس المفارقة، هنا، في أكثر تجلياته شيوعاً، وقابلية للتداول والاستهلاك، زعزعة دائمة للمنطق. ولكل ما يتاخم، في الوهلة الأولى، حد البداهة في مجتمعات لا تعترف بالحق في الاختلاف. مع التذكير، طبعاً، بحقيقة أن ما يُدخل شيئاً ما في "حد البداهة"، أو يخرجه منها، يتم في الغالب بغسيل الأدمغة، أو كسر الرؤوس، إذا استدعى الأمر.
وطالما فرغنا من النكتة العراقية بوصفها وسيلة إيضاح، وقبل تفسير لماذا من غير المُستغرب أن يكون رد الألمعي الجديد إيران، ثمة ضرورة للتصريح بما يشبه إبراء الذمّة:
فكاتب هذه السطور يتفق مع الرأي القائل إن الدولة الإيرانية من عوامل زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط، وأنها تتدخل في شؤون اللبنانيين، والسوريين، والعراقيين، والفلسطينيين، وغيرهم، بطريقة عادت وتعود بنتائج كارثية على الشعوب المذكورة، ناهيك طبعاً، عمّا تمثل من تهديد مباشر لممالك النفط في الخليج.
 وعلاوة عليه، يعتقد أن هيمنة الملالي على نظام ودولة ما بعد الثورة الإيرانية أسهمت بشكل مباشر ورئيس في صعود ظاهرة الإسلام السياسي، وإحياء مشروع الدولة الدينية في المنطقة. ويعتقد، أيضاً، أن إيران ديمقراطية وعلمانية أفضل لمواطنيها وللمنطقة.
ولكن، وطالما أن الشيطان في التفاصيل كما يُقال: هل إيران الملالي هي القوّة الوحيدة التي تتدخل في شؤون اللبنانيين، والسوريين والعراقيين، والفلسطينيين، وغيرهم؟ ألم تُلحق قوى الهوامش الصحراوية، الصاعدة على جناح النفط، الكوارث بالعالم العربي، وفي كل مكان تدخلت فيه؟ ألم تُسهم في تدمير الحواضر؟ ألم تشعل، وما زالت، حروباً أهلية بالدولارات النفطية؟ ألم تدعم الإرهاب بما فيه الداعشي؟ وبالمناسبة، وماذا عن حاميتها الجديدة إسرائيل؟  
على أي حال، تُركّز منابر الإعلام السائدة والرئيسة، التابعة لهؤلاء، على خطورة إيران لأن تدخلها في شؤون الآخرين يوقظ الفِتن، ويُقوّض الاستقرار. ومع ذلك، لا تهتم الوسائل نفسها بتفسير لماذا تتدخّل وتقوّض، إلا إذا كانت في معرض ترويج خردوات أيديولوجية يصعب التحقق من صلاحيتها من نوع الصراع العربي ـ الفارسي، والسني ـ الشيعي.
ولا يوازي خردوات أيديولوجية كهذه سوى بضاعة محور "المقاومة والممانعة"، الذي تُفسّر منابره الإعلامية السلوك الإيراني بلغة السياسات النورانية، والانتصارات الربّانية. والمشترك بين هؤلاء ومُبغضيهم في المنابر السائدة والرئيسة، هو تجاهل الهويات والبرامج الاجتماعية والسياسية للقوى الفاعلة في محور "المقاومين" و"المعتدلين". فلا يهم إذا كنت مع الحرية وحقوق الإنسان أو ضدهما. المهم: أنت معنا أم ضدنا، إذا كنت معنا فكل ذنوبك مغفورة. وما يُسّهل الأمر على المعسكرين أن أحداً فيهما لا يقيم وزناً حقيقياً لأسئلة كهذه.
وإذا شئنا اختزال الأمر، وحاولنا بلورة أجوبة محتملة لسؤال من نوع لماذا شيطنة إيران دون غيرها في منطقة لا  تشكو ندرة الشياطين، فلن نتمكن من تجاهل عناصر تبدو ضرورية في، وكل، صياغة عقلانية للجواب. من هذه العناصر، وعلى رأسها، أن إيران تمثل تحدياً للهيمنة الأميركية، والمشروع الإمبراطوري الإسرائيلي. على الأقل في هذه المرحلة من تاريخها (سنفسر لاحقاً كيف ولماذا).
والواقع أن إيران الشاه لم تكن أقل خطورة من إيران الملالي. وربما كانت أكثر. فإيران الشاه هي التي احتلت الجزر الإماراتية، وهي التي اقترحت على الإدارة الأميركية خلال فترة الحظر النفطي، بعد حرب أكتوبر على جبهتي سيناء ولجولان، احتلال المنطقة الشرقية في السعودية، والسيطرة على منابع النفط. وإيران الشاه هي التي سعت إلى تكريس هوية الخليج الفارسية، وخصوصية وتابعية مواطنيه الشيعيّة. ناهيك طبعاً عن تدشين مشروع القوّة الإمبراطورية، وممارسة الدور التخريبي في العراق. ومع ذلك، لم يحرك أحد ساكناً بما يُغضب الإيرانيين، باستثناء العراق، لأن إيران الشاه كانت حليف أميركا، وثاني ركائزها الاستراتيجية في الشرق الأوسط بعد إسرائيل.
والصحيح، أيضاً، أن إيران، ما بعد الثورة، عوقبت بطريقة استحقها نظام الشاه أكثر من نظام ورثته، من خلال حرب غير عادلة، وبالوكالة، شنها نظام صدّام حسين، وانتهت دون تحقيق أهدافها المُعلنة، وكانت مدخلاً إلى خراب العراق نفسه. هذا لا يعني أن نظام الملالي كان ملائكياً، ولكن احتواء النظام، وتفّهم أسباب عدائه للأميركيين، كانا مدخلاً مناسباً للحد من جنوحه دون صب الماء في طاحونة أعدائه. كانت الثورة الإيرانية حدثاً من آخر الفصول الكبرى في تاريخ الحرب الباردة. فاصل ونواصل.