مأثرة فلسطينية بطولية سيخلدها التاريخ.. وفشل أمني إسرائيلي.. مختصر قصة ستة أبطال تمكنوا من انتزاع حريتهم غصباً عن سجانيهم.
سجن جلبوع، أحدث سجن إسرائيلي، تم بناؤه سنة 2004، بمعنى أنه مصمم وفق أحدث التجهيزات المتوافقة مع التكنولوجيا المتطورة، بالاستعانة مع خبراء إيرلنديين شاركوا ببناء سجون معتقلي الجيش الجمهوري الإيرلندي. ولأنه مخصص لذوي الأحكام العالية والمؤبدات؛ صُمم ليكون الأكثر منعة، والأشد حراسة، بحيث يستحيل الهروب منه، لذا أسموه "صندوق الخزنة"، وقد جرى تصميمه بمعايير عالمية شديدة الصرامة، وأحيط بجدران عالية، وبالأسلاك الشائكة، والكاميرات، وأبراج المراقبة، وكلاب الحراسة.. أرضيته من الإسمنت المسلح المزودة بطبقة فولاذية، مصمم على شكل أقسام منفردة غير متصلة ببعضها، وزيادة في التشديد تجري عملية التفقد ثلاث مرات يومياً..
ما يعني أن الهروب من هذا السجن يشكل تحدياً حقيقياً لكل المنظومة الأمنية الإسرائيلية التي تتباهى بأنها الأفضل في العالم.
نظرياً، الهروب من هذا السجن مستحيل، لكنه حدث فعلاً.. بعملية معقدة ودقيقة وبالغة السرية والجرأة، جرى التخطيط لها منذ فترة طويلة، قد تكون سنة أو أكثر، ومثل هذه العملية تتطلب ذكاءً وانضباطاً وشجاعة غير عادية، وإرادة تقهر المستحيل.. وقد تمكن ستة أسرى من حفر نفق بطول 25 متراً، وقطر نصف متر، والهروب منه إلى منطقة مفتوحة، ثم الاختفاء.
عبقرية العملية وعظمتها تكمن في استخدام منفذيها أدوات بدائية، قد تكون ملعقة، أو مسمار.. وصعوبة الحفر، والتخلص من كمية الرمال الكبيرة، وكتمان الصوت، ومعرفة الاتجاهات والمخارج، والتنفس، والإضاءة داخل النفق.. تفاصيل كثيرة ودقيقة وكل تفصيل يحتاج إلى منظومة عمل وتفكير ودقة في التنفيذ، في زنزانة مراقَبة، ووسط إجراءات أمنية معقدة.
أفلام سينمائية كثيرة تناولت موضوع الهروب من السجن، جميعاً ذات حبكة درامية متقنة، ولكن قصة أسرى جلبوع أكثر واقعية وغرابة.. لدرجة أن أي روائي أو مخرج سينمائي لن يستطيع تخيل سيناريو مشابها.
ومع ذلك، وإنصافاً للتاريخ، يجدر التذكير بأنها ليست المرة الأولى، فالفلسطيني، سواء كان أسيراً أم لا، ينزع دوماً للحرية، شأنه شأن أي إنسان حر.. ولذلك ومنذ أيام الانتداب البريطاني جرت محاولات عديدة للتحرر من السجن، باستخدام أساليب متنوعة، منها حفر الأنفاق، أو قص قضبان نافدة في الغرفة والتسلل منها إلى الخارج، أو بالجمع بين عدة أساليب.
وتذكر المصادر التاريخية بعض عمليات التحرير من السجون البريطانية خلال ثورة 36، وأيضاً الهجوم على سجن عتليت عام 1938، بقيادة الشهيد أبو درة، ونجاح الشهيد عيسى البطاط، في العام ذاته، في تحرير نفسه قبل أن يتم القبض عليه في بيت جبرين واغتياله.
وفي زمن الاحتلال الإسرائيلي تمكن الأسير محمود حماد من الهروب من سجن رام الله عام 1969، ثم الانتقال الى الأردن، كما تمكن الأسيران ناصر حامد ومجدي سليمان من الهروب من مبنى المحكمة في 1983، والوصول إلى الأردن. وفي العام 1987، نجح الأسرى خليل الراعي وشوقي أبو نصيرة وكمال عبد النبي، من التحرر من سجن نفحة.
وفي عملية تمويه ذكية نجح الأسير صالح طحاينة من الهروب من سجن النقب عام 1996. وأيضا في 1995 نجح الأسير ياسر صالح في التحرر من سجن بئر السبع، إلا أن الجيش أمسك به عند الحدود المصرية. وفي 1996 تمكن جهاد أبو غبن، وثائر الكرد، ونهاد جندية، ومحمد حمدية وحافظ قندس من الهروب من سجن عسقلان. وفي 2003 تمكن مهنّا زيود وبلال ياسين من الهروب من سجن عوفر. أما أكبر عملية تحرر فكانت في 1987، حين تمكن ستة أسرى من الهروب من سجن غزة المركزي، والوصول إلى تونس.
وفي آب 1983 تمكن 76 أسيراً من الهروب من سجن أنصار في الجنوب اللبناني، عبر نفق طوله 37 مترا حفروه بأظافرهم وبأدوات بدائية.
والسؤال: ما الذي يجعل الأسير يفكر بالهروب؟ مع إدراكه أن في ذلك مخاطرة كبيرة، واحتمال شبه أكيد بأن يلقى حتفه؟ والسؤال الموازي: كيف يعيش الأسير المحكوم بعدة مؤبدات؟ مع علمه أنه سيقضي بقية حياته في الزنازين؟
قيمة وأهمية عملية الهروب الأخيرة من جلبوع، وعملية قتل القناص من المسافة صفر في غزة قبلها بفترة بسيطة.. ليست فقط في أنهما فضحتا وأربكتا الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، بل وأيضا لكونهما تعطياننا دافعاً قوياً، وأسباباً جديدة لمواصلة المقاومة، وترسخ إيماننا بقيم الحرية، وتزيد قناعتنا بإمكانية هزيمة الاحتلال، دون دبابات ولا صواريخ.
وهي مناسبة لنتذكر آلاف الأسرى في السجون الإسرائيلية (والعربية للأسف).. وأن نفكر بما يمكن تقديمه لهم، وكيف نعمل على تحريرهم، وإثارة قضيتهم في كل أنحاء العالم.
بعد أشهر قليلة سيكمل الأسير ياسر أبو بكر عامه العشرين في الأسر.. وهو المحكوم بثلاث مؤبدات وأربعين سنة. قبل أن يتم ترحيله من سجن جلبوع، مع بقية رفاقه وأخوته إلى سجون أخرى، في اتصال هاتفي معه سألته: ما هو شعورك وأنت تقترب من عامك العشرين في السجن؟ وكيف تنظر لتلك السنوات التي انقضت؟ ولتلك التي ستأتي؟ أعترفْ بأنه سؤال مربك وقاس.. لكني أخبرته أن الموضوع ليس كتابة خاطرة نثرية تتغنى ببطولات الأسير؛ وأننا نحن من هم خارج السجن نشعر بآلام السجين ومعاناته، وندرك مدى صعوبة الأمر.. لكنني أريدك أن تعبّر بكلماتك وبقلبك، وأن تنقل إحساسك كما هو.. وأنت الأقدر منا على ذلك، وستكون كلماتك أبلغ من كل شاعر وأديب.. ومهمتنا أن ننقل كلماتك ومشاعرك إلى العالم كله.. لعل الضمير الإنساني يصحو.
مثل ياسر مئات من الأسرى، محكومين بالمؤبدات.. مضت عليهم سنوات طويلة، بأصيافها القائظة، وأشتائها الباردة، وأعيادها التي تمر كل سنة كالعلقم، يكبر أطفالهم وهم محرومون من لمسة أياديهم، ومن ضمهم إلى صدروهم، يموت أحبتهم دون أن يودعوهم، تهرم أجسادهم، وتتجعد وجوههم، تمر عليهم الأيام والساعات مريرة، ثقيلة.. وما يبقيهم على قيد الحياة شيء واحد: تمسكهم بالأمل.. وما يقويهم ويشد أزرهم أن نتذكرهم دائماً، وألا نكفّ عن الحديث عنهم، ووصف معاناتهم، والإحساس بهم.. وأن نشغل الدنيا بأسرها بقضيتهم.
لهم المجد، والحرية..