مـهـاجـرون عـلـى صـفـيـح سـاخـن

3342.jpg
حجم الخط

بقلم هاني عوكل

 

 

 

لظروف جد قاسية يلجأ الكثير من الفلسطينيين في الداخل وتحديداً في قطاع غزة للهجرة إلى الدول الغربية بحثاً عن حياة آمنة ومستقبل مضمون لأسرهم، ولم يتوقف مسلسل الهجرة هذا منذ عام النكبة الذي شهد فصلاً مأساوياً في رحلة حياة الفلسطينيين.
نكبة عام 1948 ونكسة حزيران 1967 وما تبعها من نكبات ونكسات كثيرة على مستوى الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي وعلى مستوى التدهور السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الضفة الغربية وقطاع غزة، كل ذلك أعاد صياغة الوضع الديمغرافي في الأراضي الفلسطينية.
أكثر من نصف التعداد الكلي للفلسطينيين في العالم يعيش خارج الأراضي الفلسطينية. الربع يسكن في الدول العربية المجاورة والربع الباقي انتشر في المعمورة وتآلف مع المجتمعات التي عاشوا فيها ومنهم من ذاب في النسيج الاجتماعي وتناسى فلسطينيته وقضيته.
في الضفة الغربية يسكن حوالى 3.12 مليون فلسطيني حسب تقديرات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني حتى منتصف العام 2021، و2.11 مليون شخص يعيشون في قطاع غزة وأغلب الظن أن نصفهم أو أكثر يرغب بالخروج من القطاع لظروف معيشية صعبة للغاية.
في قطاع غزة ليس هناك من أفق سياسي ولا اقتصادي يبعث على الأمل لدى الفلسطينيين في هذه المنطقة الجغرافية المحاصرة. البطالة مرتفعة خصوصاً في صفوف الشباب، والكهرباء والمياه شحيحة وعملة نادرة في هذه الأيام، والمجتمع الغزي منقسم انقسام واختلاف العقلية الفصائلية.
فلسطينيون كثر ينتظرون فتح معبر رفح البري لمغادرة القطاع إلى مصير الهجرة المجهولة، وهناك من يتأمل من أقاربه وأهله في الشتات تسهيل مهمة سفره للالتحاق بهم في الخارج، وبين هؤلاء يحاول الشباب الفلسطيني طرق كل الأبواب للحصول على تذكرة الهجرة.
غير أن هناك ما هو خطير يمس القضية الفلسطينية على المستوى الطويل، والمقصود بذلك الأطفال الذين يعيشون مع أسرهم خصوصاً في الدول الغربية، وسط اختلاف كبير في العادات والتقاليد وغياب التوعية والرقابة الأسرية تحت أولويات الانشغال في مصالح العمل تحديداً.
ثمة صعوبة كبيرة جداً في تربية الأبناء بعيداً عن امتدادهم الوطني والأسري الأصيل، إذ أن مقتضيات العمل تلهي الكثير من العائلات عن تواصلها مع أبنائها، وفي النهاية تغيب شيئاً بعد شيء الهوية الوطنية الجامعة وتحضر الهويات الفرعية، هوية الأب الملتصق بعروبته وفلسطينيته حيث عايش الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وهوية الابن المنحازة للهوية الغربية.
النتيجة أن أجيالاً جديدة ذابت في المجتمعات التي تعيش فيها وفقدت فلسطينيتها وتآلفت بشكل كبير وانسجمت مع الجو العام الذي تستظل فيه، وهذا الجيش من الشباب غائب تماماً عن الصحوة الوطنية، ولا يرتبط بقضيته وهويته سوى ارتباط أهله بها لا أكثر.
واحد من المشاهد التي آلمتني بصدق بعد هجرتي القريبة إلى إحدى الدول الغربية، حوار جاء مع فتاة تعمل في شركة حقائب. الصبية سألتني إن كنت عربياً بعد ملاحظة استصعابي تحدث اللغة الأجنبية بأريحية. تحدثنا بالعربية وبدا لي الابتهاج أنها فلسطينية من سؤالي لها عن أصولها.
المشكلة أنها لم تكن صغيرة في العمر، ربما في أواخر العشرينيات وطلبت الطلاق من زوجها الذي قالت عنه إنه «عربي سكّر زيادة وأنا أميركية». ولم أحكم هنا على مظهرها لكن بدا لي تماماً من دفاعها عن هويتها الفرعية وكثرة «التاتوهات» على يدها أنها فضّلت الانتماء للمجتمع الذي تسكنه على الانتماء لهويتها الأصلية.
تعيش الآن مع صديقتها ولا يبدو من حديثها أن هناك علاقة تواصل مع أهلها. المهم أنني خرجت من «المحل» ولسان حالي يتساءل عن عدد الفلسطينيين الذين هم على شاكلة هذه الفتاة، وهل العيب منهم أم من أسرهم الذين لم يغرسوا فيهم حب الانتماء لفلسطين وعدالة قضيتها.
طبعاً ثمة لوم على الفتاة أنها تبرأت من فلسطينيتها وتجاوزت هويتها الأصلية، واللوم الآخر يقع على عاتق أسرتها التي يفترض أنها الحصن الأول والأخير لتمكين الأبناء من هويتهم الأصلية والارتباط بجذورهم. في النهاية الفلسطيني ليس ملاكاً، حاله حال البشر يؤثر ويتأثر بالمحيط الذي يعيش فيه.
العبرة أننا بحاجة إلى صيانة هويتنا الأصيلة وتنمية الحس الوطني من مراحل الطفولة المبكرة، وتعزيز التلاحم الأسري وفهم الآخر بعيداً عن تقمص شخصيته. وإذا كانت الهجرة شراً لا بد منه، فأكبر الشرور أن يغترب الفلسطيني وينقطع تماماً عن وطنه، ولا ينبت في أبنائه حب فلسطين من الصغر بأصالة أهلها ودفاعهم عن وطنهم، بالأغاني التراثية والوطنية والدبكة الشعبية وشعر محمود درويش وإبراهيم طوقان، بالمطرزات والثوب الفلسطيني وزيت الزيتون والزعتر البلدي والكنافة النابلسية والهيطلية والتمرية والمسخن والقائمة تطول وتطول.