مُجددًا يثبُتُ العقلُ الفلسطينيُّ وعيُهُ في صراع الأدمغة مع الاحتلال "الإسرائيلي"، خُصُوصًا في قضية أبطال "نفقِ الحُريةِ" الستة الذين حفرُوا باطن الأرض بصبرهم وثباتهم ودقة تخطيطهم، وتحررُّوا من سجنِ "جلبوع" وهو أعتى السُّجُون لدى الاحتلال، فمثلُ هذا التخطيط من الطبيعي الاندِهاشِ، فكيف لِمسجونٍ مُنذُ أكثر من عقدٍ من الزمن أن يُدبر مثل هذا الهُروب؟ والأكثرُ اندِهاشًا هو عدمُ مَعرفةِ مصيرهم لعدة أيامٍ مما يُصيبُ المنظومة الأمنية بجميع أجهزتها في ضربةٍ قاتلةٍ وبفشلٍ كبيرٍ جدًا وتفوقٍ للإرادةِ الحُرِة لأسرانا البواسل.
من يعلمُ طبيعة الوضع في فلسطين وموقعُ سجن "جلبوع" يدركُ تمامًا مصيرَ أبطالِ النفقِ الذي أمامهُم ثلاثُ خياراتٍ لا رابِعَ لهم، إما اللُّجوءُ إلى قُرى ومُدُنٍ فلسطينيةٍ داخليةٍ أو إلى دولٍ مُجاورةٍ مثل لُبنان وسُوريا، أو الاستشهادِ باشتباكٍ مع قوات الاحتلال، أو إعادة الاعتقال وهي المُتوقعةُ والنتيجةُ الطبيعيةُ لتلك العملية، لأن الاحتلال يمتلكُ الكثير من الأدوات للكشف عن موقع أسرانا مثل قوات تقصي الأثر وانتشار جهاز" الشاباك" والمُتعاونين والطائراتِ المسيرةِ، فضلًا عن أن الاحتلال لديه قُدرةُ تِكنُولُوجيا عاليةٌ مثل تتبع كاميرات المراقبة، والتعرُّف على بصمةِ الوجهِ والعينِ وغير ذلك من الأـساليب، ما يُعنى الوصُول إليهُم لا يحتاجُ إلى جهدٍ استخباريٍ دقيقٍ.
صحيحُ اعتقال أربعة أسرانا البواسل وضع في القلبِ غُصَّةُ وأحزن جميع أطياف الشعب الفلسطيني، لكن لا يُنفى العملية الأُسطُورية والتاريخية الذين صنعُوها بعرقهم وإظهارهم فشل الاحتلال مرَّةُ تلو المرَّةِ في صراع الأدمغة، فخبرةُ هؤلاء الأسرى الذين قضوا سنواتٍ طويلةً في السجن "الإسرائيلي"، وتعلمُوا كيفية التعامُلِ مع السجان وأدواته الداخلية، كافيةً لحمايتهم في عمليتهم من الداخل، فلا عجب شَخصٍ لم يدخُل أي منطقةٍ مُنذُ سنواتٍ كثيرةٍ أن يعرف مسارهُ بعد نجاح عملية تحرُّرِه.
وعيُ أبناء شعبنا لأساليب الاحتلال بعد نشره خبر اعتقالهم بادِعائِهِ أنهُم يبحثُون عن الطعامِ في صناديقِ القُمامةِ، وبدا عليهُم الإرهاقُ الشَّديدُ، وأن من وشَى لهُم "عائلةٌ عربيةٌ" أو "رجُلٌ دُرزيٌ" يخدِمُ شُرطيَّ لديها، يهدفُ من ذلك ضربُ آسِفينَ داخل أبناء الوطن الواحد، ويُريدُ تحطيم معنوياتنا وقتل صُمودِنا، وإجبارنا على الاستسلام الكاملُ ونزِعِ الثقة، وإظهار ضعفنا في مواجهته وتحديه، ويُريدُ أن يُخفي الفشل الاستخباريُّ والعسكريَّ والأمنيَّ الذي مِنِّيَ به، نقولُ للاحتلالِ هيهات لتلك المُحاولاتِ الفاشلةِ والتي لن تنطلي على أحدًا أو على شِبلٍ صِغيرٍ من أبناءنا، ووعي الشعب لتلك الأساليب لا يقلُّ عن نجاح عملية "نفقِ الحُرية".
هذه العمليةُ تكشفُ ضعف الاحتلال وتآكُلَ ردعِهِ، إنها ضربت خاصرةَ النظريةِ الأمنيةِ للاحتلال، في المُقابل تُثبِتُ قوَّةُ وتوحُّدُ الشعب الفلسطيني وأن قضية الأسرى خطُّ أحمَرُ لا يُمكنُ تَجاوُزُهُ، لذلك هذه العمليةُ تُضافُ إلى عملياتِ النضال المُتراكمة والتَّحدّي اليوميّ التي يقومُ بها الأسرى الفلسطينيُّون في مواجهةِ السجان، وهي عمليةٌ حققت أهدافها بامتيازٍ، حيثُ ذكرت العالمُ من جديدٍ بقضيةِ أسرانا الأبطال في سُجونِهِ وهم 4850 أسيرًا فلسطينيًا، من بينهم 43 سيدةً و225 طفلاً.
كما نجح أبطالُنا الستَّةُ في عمليتهم "نفقُ الحُرية" في أن يضعُوا قضية الأسرى على جدولِ أعمالِ وأولوياتِ فصائلِ المُقاومةِ الفلسطينية، وهو ما أدى لخُرُوجِ "أبو عبيدة" في كلمةٍ يتوعَّدُ أنهُم على رأسِ أي صفقةٍ تحريرٍ قادمةٍ.
أنتُم الأحرارُ ونحنُ الأسرى نفخر بفعلكُم البُطوليّ الذي هَزَّ أركانَ الاحتلالِ، نسألُ الله الفرجَ العاجلَ والقريبَ لَكُم، وصَبركُم في مواجهةِ السجانِ.