وصلنا إلى مرحلة بائسة من الحيرة، لا نعرف كيف نتضامن، ومع من! رغم أن تضامننا مع أي قضية أو تعاطفنا مع أي شعب قد لا يقدم فائدة مباشرة لتلك القضية، أو لذلك الشعب.. إلا أن التضامن بحد ذاته مهم، والتعبير عن موقف ما هو تعبير عن ضميرنا ووجداننا وقناعاتنا. وفي كل الأحوال من الصعب، وأحياناً من الخطأ، أن نأخذ موقفاً حيادياً وسلبياً خاصة من القضايا الإنسانية، أو حين نتقاعس عن تعاطفنا مع المظلومين.
المشكلة أن القضايا المطروحة والحروب المشتعلة في كل مكان، بلغت مراحل مربكة من التعقيد والتشابك، ولم تعد الأمور من الوضوح بحيث تحدد موقفك بحزم، وإلى أي جانب.. لنأخذ بعض الأمثلة:
قبل أن نطرح قضايا خارجية، لنبدأ بالمثال الفلسطيني.. أي تضامننا مع أنفسنا، وتعاطف الشعوب معنا، وتأييد العالم لقضيتنا.
سابقاً، وتحديداً حتى اليوم الذي سبق انقلاب «حماس»، وبداية عصر الانقسام، كانت قضيتنا موضع إجماع من قبل أحرار وشرفاء العالم، وغالبية شعوب الأرض.. ولم يكن أحد يتردد في تأييده لكفاح الشعب الفلسطيني. اليوم، ورغم وضوح البطش الإسرائيلي، إلا أن تضامن العالم معنا لم يعد كما كان. انقسم الناس بين من يؤيدون السلطة، ومن يؤيدون «حماس».. حتى في حال التعاطف مع غزة يظهر الانقسام، فهنالك من يتعاطف مع المدنيين، ومن يريد منهم تصعيد الكفاح والمزيد من الحروب، وتقديم غزة بكل سكانها تضحية في سبيل القضية.
بالطبع، وإن كانت «حماس» قد دشنت عصر الانقسام، وتتحمل الجزء الأكبر من مسؤولية استدامته، إلا أن القيادة والسلطة والمنظمة و»فتح» وجميع الفصائل وقوى المجتمع المدني تتشارك في تحمّل المسؤولية عن تدهور الأوضاع يوماً بعد يوم.
لو أخذنا سورية كمثال آخر، سيكون الانقسام أشد عمقاً.. وبعيداً عن لغة التخوين، سنجد أشخاصاً وطنيين ومخلصين ومثقفين كلاً منهم يؤيد أحد طرفَي الصراع.. من يرى أن النظام حمى الدولة من الانهيار، ومنع تقسيم الوطن، وطرد الدواعش وغيرهم من الجماعات العنيفة ومنعهم من تغيير هوية المجتمع، وإعادته إلى عصور الظلام.
ومن يرى النظام مجرماً ودموياً وفاسداً، قتل وشرد الآلاف وقصف المدنيين، ومارس أشد أنواع القهر بحق السجناء والمعارضين.
المشكلة أن كلتا وجهتَي النظر فيها جانب من الصواب.
ولو رحنا لليمن، ستشتد حيرتنا، الحكومة مدعومة من السعودية تقاتل الحوثيين المدعومين من إيران.. كلا الطرفين يقتل ويقصف ويسجن معارضيه، كل طرف له أجنداته السياسية، التي لا تخدم اليمن، ولا شعبها، وكلاهما أوغل في القتل والتخريب.
في مصر، انتصر الجيش لإرادة الشعب في تظاهرات 30 حزيران 2013، حين خرج الملايين يطالبون بإنهاء حكم «الإخوان»، وإعادة الحياة الديمقراطية (فاقت أعدادهم من خرج لإسقاط نظام مبارك).. بيد أن الدولة العميقة سرقت تلك الثورة الشعبية، وأعادت إنتاج نظام الاعتقالات وتكميم الأفواه.. في المقابل، معارضو النظام الجديد يخدمون أجندات قطرية وتركية، سواء من «الإخوان المسلمين»، أو غيرهم.. فـ»الإخوان» حين حكموا مصر سنة كاملة كان كل همهم أخونة الدولة ومؤسساتها، وفرض أجنداتهم الاجتماعية على المجتمع، ولم يطوروا أي توجه ديمقراطي، بل بالعكس، وعلى الصعيد السياسي تساوقوا كلياً مع سياسات النظام السابق، واقتصادياً لجؤوا للاقتراض الخارجي، وفي ذلك الوقت شهد الاقتصاد تراجعاً ملحوظاً.
لا يختلف الوضع في ليبيا، حيث أطراف الصراع أوغلت في دماء الأبرياء، وساهمت في تخريب البلد، وكل طرف له ارتباطاته الخارجية وأجنداته المتساوقة مع خدمة مموليه.. والشعب المسكين هو من يدفع الثمن.
في العراق، نتعاطف مع الجماهير التي عانت الأمرّين من بطش وقسوة نظام صدام حسين، وقدمت مئات الألوف من شبابها خدمة لحروبه، وطريقته الخاصة في الحكم.. لكن ملايين الفقراء والناس الطيبين والمظلومين هم أنفسهم من قاموا بإنتاج نظام أشد ظلماً، وأكثر فساداً.. فهؤلاء الطيبون انتخبوا أرذل خلق الله، وأوصلوهم إلى مجلس النواب، وجعلوا منهم الوزراء والمسؤولين، وصدقوا كل كاذب، ومشوا وراء كل مخادع.. كان ديدنهم الانتماء الطائفي.. حتى أن من يفجرون أنفسهم، ومن ينتمون للأحزاب الطائفية، ومن يحمون اللصوص والفاسدين، هم من نفس هؤلاء الفقراء الطيبين.
صحيح أن الشعب العراقي انتفض ضد جلاديه وسارقيه ممن خربوا البلد، وأن تياراً كبيراً من عامة الناس بدأ يستفيق، ويدرك بوعي متقدم أن تلك العصابات الطائفية أساس كل بلاء، وبدأ يعي حجم الكذبة الكبيرة التي تخبأت في عباءة الدين.. مع ذلك، ما زال الكثير من هؤلاء البسطاء يغلّبون انتماءهم الطائفي على مصلحة الوطن.. وحتى على مصالحهم الشخصية كفئات اجتماعية مظلومة.
هناك من يرى في إيران دولة ممانعة، وسنداً قوياً لقوى المقاومة، وأنها عدوة أميركا وإسرائيل.. لذا تجد حلفاء لإيران في المنطقة (الحشد الشعبي، الحوثيون، «حزب الله»، «الجهاد الإسلامي»، تيار من «حماس»، أنصار النظام السوري)، وهؤلاء يدافعون عن إيران، ويروجون لبرنامجها، بل وينفذونه بأنفسهم.
وبالطبع، هناك من يرى عكس ذلك كله، ويعتقد جازماً أن إيران هي من خربت المنطقة، وساهمت في إطلاق المارد الطائفي، وأن برنامجها يهدف إلى السيطرة على المنطقة العربية بما يخدم مصالحها القُطرية فقط، حتى لو تحالفت مع «الشيطان الأكبر»، وكان ذلك على حساب المصالح القومية العربية.
الوضع في لبنان يشبه مثيله في العراق، وأقصد أنّ الناس البسطاء والفقراء هم الذين صنعوا سارقيهم، وانتخبوهم لمجلس النواب، وجعلوهم وزراء وقادة ميليشيات وأمناء عامين لأحزاب فاسدة.. ويشبهه أيضاً في انتفاضة اللبنانيين ضد كل رموز الفساد (كلتا الانتفاضتين العراقية واللبنانية تمّ إجهاضهما للأسف).. وما زال الكثير من الطيبين يضعون انتماءهم الطائفي فوق أي اعتبار، حتى لو كان على حساب مصالحهم وضد حقوقهم!!
إذاً، تكمن المشكلة في تعقد المشهد، الدولة فاسدة، والمعارضة أفسد.. كل طرف من أطراف الصراع له إيجابياته وسلبياته، وله أجنداته الخاصة، وتحالفاته الخارجية (وهي في معظم الأحيان ضد مصلحة الوطن والشعب).. إما أن تكون مع محور أميركا وحلفائها، أو مع محور إيران وأتباعها.. إما مع النظام المستبد، أو مع القوى الظلامية والرجعية.. والمشكلة أن كل طرف يمتلك وجهة نظر فيها جانب من الصواب..
كيف وصلنا إلى هذا المستنقع؟ لماذا صرنا مجبرين على خيارين، أسوأ من بعضهما البعض؟
ومتى سيظهر خيارنا الوطني، العروبي، الإنساني، التقدمي، الديمقراطي؟