نفق أوسلو المغلق ودروب الحرية المفتوحة

41029028-FF61-457B-A624-315F0835B5A3.jpeg
حجم الخط

بقلم د. مصطفى البرغوثي 

 

مرّ على توقيع اتفاق أوسلو ثمانية وعشرون عاماً بالتمام، وما قُدّم أنه اتفاق انتقالي، سينتهي العمل به خلال ست سنوات، ليفضي إلى سلام دائم وإقامة دولة فلسطينية، أصبح وضعاً دائماً حوّلت فيه حكومات إسرائيل السلطة الفلسطينية إلى أسير دائم تحت سيطرة الاحتلال، في بقع مقطّعة الأوصال من دون سيادة، ومن دون سيطرة حتى في مناطق “أ” التي لا تزيد مساحتها عن 18% من الضفة الغربية. وبذل حكام إسرائيل كل ما يستطيعون لفرض حصارٍ محكم على قطاع غزة الذي أجبروا على مغادرته عام 2005 تحت ضربات المقاومة الفلسطينية، وحوّلوا الاحتلال العسكري المباشر إلى احتلال إلكتروني يحاصر غزة برّاً وبحراً وجواً، ويشن حروباً عسكرية عليها كل بضع سنوات. ولم يوفر حكام إسرائيل فرصةً إلا واستغلوها لضمان تعميق الفصل بين قطاع غزة والضفة الغربية، وتشجيع عوامل الانقسام الداخلي الفلسطيني. وخلال هذه السنوات، استمر التوسّع الاستيطاني يلتهم الضفة الغربية والقدس.

لا حاجة لإعادة تقييم اتفاق أوسلو، فقد أُشبع بحثاً، وكُشفت كل عيوبه، وصار واضحاً للقاصي والداني أنه كان فخّاً نصب للفلسطينيين، بغرض تضييع نتائج الانتفاضة الشعبية الأولى. وما يلفت النظر أن معظم مؤسسات المجتمع الدولي تقاعست عمداً عن التصدّي لما قام ويقوم به حكام إسرائيل من تدمير منهجي لما سمّي “حل الدولتين”، واستمرّت في الدعوة إلى ذلك “الحل”، كضريبة كلامية تعفيها من المساءلة عن تقصيرها في حماية القانون الدولي، بما في ذلك الاتفاقيات التي رعتها.

لم يوفر حكام إسرائيل فرصةً إلا واستغلوها لضمان تعميق الفصل بين قطاع غزة والضفة الغربية، وتشجيع عوامل الانقسام الداخلي الفلسطيني.

وبالاختلاف عن أسلوب شمعون بيريس بتغطية السم بالعسل، لا يخفي حكام إسرائيل الحاليون نواياهم التي تؤكد أنهم، والحركة الصهيونية، ليسوا على استعداد لقبول حل وسط مع الفلسطينيين، ولا لقبول قيام دولة فلسطينية مستقلة بأي حال. وجديد تصريحاتهم ما قاله وزير الحرب الإسرائيلي، بني غانتس، لمجلة فورين بوليسي، بعد أيام من لقائه رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، إن اللقاء لا يعبر عن بداية “محادثات سلام”، وإن “الرئيس الفلسطيني” فشل في إظهار أنه مستعد لتقديم تنازلات تاريخية، ويحلم بخطوط 1967، وهذا لن يحدُث، وعليه الاعتراف بأننا سنظل هنالك (في الضفة الغربية) ولن نفكك المستوطنات”. وأضاف “إسرائيل ستُبقي مستوطنات الضفة الغربية، ولن تفكّك أياً منها”. وكان قد قال في مقابلة سابقة إن “90% من العلاقات مع السلطة الفلسطينية تتعلق بالتنسيق الأمني، ولا مفاوضات سياسية”.

أما رئيس حكومة الاحتلال، نفتالي بينت، وحليفته وزيرة الداخلية، إيليت شاكيد، فقد أكدا أنهما لن يلتقيا بالفلسطينيين، ولا مكان لحل سياسي، وأكدا رفضهما قيام دولة فلسطينية، وأن حكومتهما ستواصل التوسع الاستيطاني، ولن تجري محادثات سلام مع الفلسطينيين. وهي مواقف أكدها بينت أكثر من مرة، بما في ذلك قوله لصحيفة نيويورك تايمز، في أثناء زيارته واشنطن في الشهر الماضي (أغسطس/ آب)، إنه لن يجري أي مفاوضات مع السلطة الفلسطينية، كما أنه يعارض إقامة دولة فلسطينية، مشدّداً على أن حكومته ستواصل التوسع في المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية.

اتفاق أوسلو ونهجه وصلا إلى طريق مسدود منذ زمن طويل، ولم تجر أي مفاوضات إسرائيلية – فلسطينية طوال السنوات العشر الماضية.

خلاصة الأمر أن اتفاق أوسلو ونهجه وصلا إلى طريق مسدود منذ زمن طويل، ولم تجر أي مفاوضات إسرائيلية – فلسطينية طوال السنوات العشر الماضية. وما تمارسه حكومات إسرائيل المتعاقبة، هو نهج “صفقة القرن”، قبل صدورها وبعده، والهدف ضم الضفة الغربية وتهويدها من خلال الاستيطان، وحصر العلاقات مع الفلسطينيين في التنسيق الأمني، وتعميق الانقسام الفلسطيني، وطرح “مبادرات اقتصادية خادعة” بديلا للحل السياسي، والعمل على توسيع التطبيع مع الدول العربية على حساب القضية الفلسطينية.

وفي حين يبدو انسداد نفق أوسلو مُحكماً بالكامل، يشقّ الفلسطينيون أنفاق المقاومة بكل أشكالها نحو الحرية التي يحلمون بها. وذلك هو المغزى الكبير للمعجزة التي حققها ستة أسرى فلسطينيون بتحرير أنفسهم من أشد سجون إسرائيل إحكاماً من الناحية الأمنية، ولنجاح شابين شقيقين في مقتبل العمر منى ومحمد الكرد في جعل قضية الدفاع عن بيوتهم في حي الشيخ جرّاح في القدس قضية عالمية، واختارتهم مجلة تايم ضمن أكثر مائة شخصية مؤثرة عالمياً.

في حين يبدو انسداد نفق أوسلو مُحكماً بالكامل، يشقّ الفلسطينيون أنفاق المقاومة بكلّ أشكالها نحو الحرية.

أدرك الشعب الفلسطيني، بعد عناء طويل، عبثية المراهنة على حل وسط مع حكام إسرائيل اليمينيين، ولم يعد في حاجةٍ لإقناعه بفشل اتفاق أوسلو، بل تعمّقت قناعته بأن الاحتلال لا يفهم إلا لغة القوة بكل أشكالها، وتعاظمت أنماط المقاومة الشعبية التي يمارسها الفلسطينيون. وكانت معركة القدس في مايو/أيار الماضي نموذجاً لتلاحم كل مكونات الشعب الفلسطيني، ليس فقط ضد الاحتلال، بل ولإسقاط كل منظومة التمييز العنصري (الأبارتهايد) الإسرائيلية.

وإذا كان الفلسطينيون يعانون من أزمة سياسية داخلية، وانقسام مؤذٍ، وغياب استراتيجية وطنية موحدة، فإنهم من المنظور الاستراتيجي التاريخي ليسوا في أزمة، بل إن الحركة الصهيونية هي التي دخلت أزمتها التاريخية، بعد ثلاثة وسبعين عاماً على إنشاء دولة إسرائيل. وذلك لا يعود فقط إلى الوجود الديموغرافي الفلسطيني على أرض فلسطين التاريخية، بل لأن هذا الوجود أصبح مقاوِماً، متمرّداً على الاحتلال، وعلى الاتفاقيات الجائرة، ومتمسّكاً بنهج الاعتماد على النفس، وعدم انتظار مساعدة الآخرين.

ومثل كل أنماط الاستعمار الكولونيالي، يواجه حكام إسرائيل معضلة أن القمع والتنكيل والقهر والاحتلال والحصار لا يزيد الشعب الفلسطيني إلا إصراراً على المقاومة، وهم لا يعرفون، مثل سياسيين تقليديين كثيرين، كيفية التعامل مع الأجيال الفلسطينية الشابة التي فاجأتهم وفاجأت العالم بأنها أكثر تمسّكاً بحقوقها التاريخية من الأجيال السابقة. لذلك يبدو المستقبل مشرقا وواعدا لكل من تبنّى نهج المقاومة والكفاح بديلا للنهج الذي فشل في المراهنة على حل وسط مع الحركة الصهيونية، ومقابل نفق أوسلو المغلق، تنفتح دروب الحرية على مصراعيها.

د. مصطفى البرغوثي –  الامين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية.