نستكمل اليوم القسم الثالث، والأخير، في سياق تداعيات يثيرها موضوع إيران، فنعود بالذاكرة إلى موقف ما كان يُعرف في سبعينيات القرن الماضي، بالقوى الوطنية والتقدمية، في العالم العربي، بما فيها الفلسطينية، من الثورة الإيرانية.
فقد استقبلها هؤلاء بأذرع مفتوحة، ورأوا فيها دليلاً ساطعاً على المسيرة الظافرة للتاريخ. وحتى الإعدامات التي أعقبت الثورة (القاضي خلخالي، الذي اعتقد أن الله سيحاسبه لأنه لم يقتل كل من يستحق القتل) وهيمنة رجال الدين على مقاليد الحكم، واضطهاد النساء، لم تقرع في أوساط هؤلاء ما ينبغي من أجراس. لذا، لم يتوقف المؤيدون أمام الجانب المُظلم للثورة الإيرانية. ولكل ثورة في الواقع.
أعرف، طبعاً، أن في خلاصة كهذه ما يبرر للبعض تقطيب الجبين. فمفردة الثورة تنطوي على دلالات أيقونية مُتعالية ترفعها فوق الشكوك والشبهات. ولكن الشكوك والشبهات كانت دائماً في صميم سجالات وفلسفات الثوريين منذ الثورة الفرنسية. وفي ميراث الماركسية (الذي أهملته ترجمات دار التقدم الروسية، بطبيعة الحال) ما كان كفيلاً بإغناء فكرة الثورة، وتسليط الضوء على ما يكتنفها من تعقيدات، لو توفّر بالقدر الكافي.
وحتى في طور الستينيات المتأخر، حذّر تشي غيفارا بوصفه مُنظراً لمدرسة حرب العصابات، في ماركسية العالم الثالث المُختزلة، والفقيرة عموماً، من مخاطر تنشأ "بعد نزول المقاتلين من الجبل"، أي بعد انتصار الثورة. فهؤلاء يمكن أن يتحوّلوا إلى الثورة المضادة، وقطّاع طرق، وأن يشكلوا خطراً على الثورة نفسها، ما لم تتوفر البرامج والسياسات الكافية لإعادة اندماجهم، والانخراط في الدورة الإنتاجية للمجتمع.
على أي حال، مخاطر الدلالات الأيقونية المُتعالية لمفردة الثورة هي المفتاح الرئيس في هذه المعالجة. ففي الفكر والمخيال السياسيَّين للحواضر العربية (لا يُعوّل على غيرها)، ولأسباب لا مجال لتفصيلها، نال كل مَنْ ثار في وجه الهيمنة الأميركية والكولونيالية الإسرائيلية، ومعهما وقبلهما، الفرنسية والبريطانية، شرعية ثورية، وحصانة أخلاقية، وكلتاهما أخرجته من دائرة المساءلة، وجعلت من حقه في احتكار السلطة والصواب تحصيلاً للحاصل. وكان من الطبيعي أن يتجلى هذا كله في صورة ترحيب حار، وبلا تحفّظات، بالثورة الإيرانية، التي أضافت ثقلاً جديداً إلى كل ما تقدّم.
يسهل، طبعاً، ادعاء الحكمة بأثر رجعي، ويصعب لوم قوى لم تستوقفها، بعد سقوط نظام الشاه، علامات تجلّت، في وقت مبكّر، وما تستدعي من تحذيرات وتحفّظات. ومع ذلك، لا نستطيع الترفّع عن ادعاء الحكمة، أو الاستنكاف عن ممارسة اللوم (النقد، إن شئت) إلى أجل غير معلوم، لا من باب النزاهة الفكرية وحسب، ولكن دفاعاً عن الحق في مراكمة الخبرات، واستخلاص الدروس، أيضاً.
فلم يكن لمحور "المقاومة والممانعة"، مثلاً، أن يحظى بما لديه من شعبية، وأن يدعي لنفسه شرعية، وأن ينال من أنصاره صكوك الحصانة الأخلاقية، لولا هيبة، ورمزية، مَنْ ثار في وجه الهيمنة الأميركية والكولونيالية الإسرائيلية، ومعهما وقبلهما، الفرنسية والبريطانية في الفكر والمخيال السياسي العربيَّين في عقود سبقت.
تنوب عن هذا كله في العقود الأخيرة، وتدل عليه، مفردة المقاومة، أيضاً، خاصة إذا كانت "إسلامية"، وقناعة جمهورها وأصحابها بكونها متعالية وعصية على النقد والمساءلة، بل وحتى تواطؤ ما ينبغي أن يكون خصماً أيديولوجياً، كاليسار الفلسطيني الذي يردد كلاماً فارغاً عن "اتفاق على الهدف وخلاف على التكتيك".
والصحيح، أن في الهيمنة، والرمزية، ما هو أبعد من هذا الخليط العجيب والغريب، الذي يضم قوى غير متجانسة. ففي ثقافة الخير والشر، والمقاومة واللامقاومة (صيغة متأخرة ومعلمنة للحلال والحرام) لا يتوفر هامش للمعارضة أو الاختلاف. والأسوأ من هذا كله أن ضيق الهامش المُتاح للمعارضة والاختلاف، وحتى عدم وجوده في حالات كثيرة، لا يجعل من نقد "المقاومين والممانعين"، أمراً بالغ الصعوبة وحسب، بل ويجعل من تسليط الضوء على المُظلم في سيرهم نوعاً من المروق، والعداء لفكرة المقاومة نفسها.
يعني إذا عارضت "حزب الله" صرت مع إسرائيل، وإذا عارضت "حماس" صرت مثقف سلطة، ومع الاحتلال، وإذا عارضت نظام الأسد صرت مع "داعش"، وإذا عارضت إيران صرت مع أميركا. ولن يخطر على بال أحد، في ظل ثنائيات مُفتعلة وهذا القدر من فوضى واختلاط المفاهيم، أن معارضة هؤلاء لا تمثل، ولا تتجلى، بالضرورة، كعداء لفكرة المقاومة، والثورة أيضاً. بل ويمكن أن نزعم أن كل هؤلاء أسهم بطريقته في إضفاء دلالة سيئة على المقاومة والثورة في آن.
وما لا ينبغي أن يغيب عن الذهن، في هذا الشأن، أن محور "الاعتدال والمعتدلين"، الذي يضم خليطاً عجيباً وغريباً، وغير متجانس، لا يُعادي محور "المقاومة والممانعة"، أو يختلف معه، نتيجة ميول ممثليه المُظلمة والظلامية، ونزعاتهم التسلطية والشمولية (فالكل في الهم شرق) بل يعاديه لأن دلالة الثورة نفسها تمثل في نظره تهديداً وجودياً، ولأنه لا يعترف، أيضاً وفعلاً، بوجود هامش للمعارضة أو الاختلاف، كما اتضح مؤخراً بالتطبيق العملي في "سلام إبراهيم"، فلا وجود لمنطقة وسطى: إما أن تكون مع أميركا وإسرائيل، بلا خجل أو وجل، أو أن تكون في الخندق الآخر.
لذا، إذا كان ثمة من خلاصة في معالجة اليوم فهي تنحصر في علاقة عضوية بين الذاكرة ومدى سعة أو ضيق ما يتوفر من هامش للمعارضة والاختلاف، كلما تذكرنا أكثر اتسع الهامش، والعكس صحيح. الذاكرة تبطل الثنائيات، والنسيان يكرّسها. ولكل ثورة جانبها المُظلم.