بعد أن ترك منصبه كرئيس للحكومة قبل حوالي عامين ونصف العام، ربما لم يحظ سلام فياض بهذا الاهتمام وهذه الإثارة، سبق وأن تقدم بمبادرته الأثيرة حول إنهاء الانقسام، وسبق أن أدلى برؤيته عبر منابر إقليمية ودولية حول الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي وسبل التوصل إلى إقامة دولة فلسطينية، كما اخترق المنطقة «جيم» التي ظلت تحت السيطرة الكاملة للاحتلال بإقامة مشاريع بالغة الأهمية، ووفر وقتاً كافياً لافتتاح مشاريع التنمية في كافة مناطق الضفة الغربية، خاصة المناطق المهمشة. لكن كل ذلك لم يوفر تلك الفرصة الكافية لكي يبرز سلام فياض، كمحرك فاعل في الساحة الفلسطينية، كما فعلتها زيارته لساعات لقطاع غزة، حتى قبل أن يصلها فعلاً!! المتابع لشبكة التواصل الاجتماعي، لا بد وأن لاحظ انفجار الشبكة بأخبار دعوته إلى غزة من قبل الدكتور أحمد يوسف، معظم التعليقات لم تكن لترحب بالدكتور سلام فياض، موجة من التهم والتخوين عجّت بها صفحات التواصل الاجتماعي، وذهبت عديد من التعليقات لتطالب باعتقاله ومحاكمته (!) ورسائل تم توجيهها «للنائب العام» للقيام بمثل هذه المهام والإجراءات (!) الشكاوى المتعددة حول تقصيره «الفاضح» تجاه مواطني القطاع، كانت جوهر هذه الافتراءات والاتهامات، كل ذلك كان قبل أن يصل فياض إلى قطاع غزة. ولا شك أن فياض كان يتابع كل ذلك، كشأنه دائماً فهو مولع بالتفاصيل بقدر ولعه بالأساسيات، ومن يعرفه، يدرك أن ذلك كله كان حافزاً إضافياً للقدوم إلى غزة، ربما لا لشيء، إلاّ لإدراكه أن أمامه فرصة لزيارة جزء من وطنه ولقاء شعبه، وممارسة حقه كمواطن فلسطيني أولاً واخيراً، إلاّ أن إصرار فياض على إنجاز هذه الزيارة، يأتي ـ حسبما أعتقد ـ من موقع التحدي، هذا الموقع الذي يتناقض ظاهرياً مع هدوئه وملامحه الشخصية الرصينة، ذلك أن هذا الرجل طبع على التحدي الواضح خلال مسيرته السياسية منذ أن عاد إلى مناطق السلطة الوطنية، بدءاً من تحدي الاطار الفصائلي الذي طبع العلاقات الداخلية الفلسطينية، عندما تقدم إلى الانتخابات التشريعية، دون فصيل أو حزب، وتحدى تركة وزارة المالية وما كان بها من أخطاء وخطايا عندما تسلمها، والأهم من ذلك، فإن هذا الرجل عندما كان رئيساً للحكومة، نجح باختراق مفاعيل اتفاق أوسلو وبروتوكول باريس الاقتصادي عندما نجح في تعزيز دور السلطة الوطنية في المنطقة «جيم» وتبنيه خطة تنمية اقتصادية في الضفة الغربية رغم نصوص الاتفاقيات... وهذه الأخيرة، ربما هي عنوان التحدي الذي مارسه فياض وهو في رئاسة الحكومة الفلسطينية. بعض التعليقات اتهمت فياض بأنه رجل أميركا وربيبها، وان واشنطن هي التي فرضته على أبو مازن لتكليفه رئاسة الحكومة... غير أن أميركا هذه، لم تكن قادرة على أن تفرض عليه رؤيتها، وعندما استقال من منصبه، لم تكن هناك أميركا، لا لإرغامه على العودة عن استقالته، ولا لتفرض على أبو مازن إبقاءه في منصبه كرئيس للحكومة، فأين هي أميركا وهو لا يتمكن من الحصول على تصريح لزيارة غزة، إلاّ كأي مواطن فلسطيني قد يقبل أو يرفض طلبه!! كرجل دولة، نجح فياض في توفير ما أمكن لاستكمال مشاريع التنمية البشرية في مناطق السلطة الفلسطينية، وانتظمت عملية دفع رواتب الموظفين، باعتبارها شريان الحياة الاقتصادية، كما لم تنتظم من قبل، في ذلك الوقت كانت حركة حماس «تعاير» الموظفين بأنهم يقبضون رواتبهم من سلطة «دايتون» وها نحن نشهد جهوداً حمساوية لكي يقبض موظفوها من رواتب «دايتون»!! ورغم أن حكومة فياض، كسائر الحكومات الفلسطينية، جاءت ضمن اطار اتفاق أوسلو، فإن الرجل حاول الخروج من هذا الاتفاق في مواقع عديدة، إلاّ أن الأهم في هذا السياق، انه اعتبر هذا الاتفاق، الذي لا تزال السلطة ترزح تحت نتائجه، يشكل خللاً معيقاً للولوج في عملية سياسية تنتهي بإقامة دولة فلسطينية. لم أشهد خطاباً نارياً أو حماسياً أو شعاراتياً لهذا الرجل، وهو ليس رمزاً تاريخياً بالمعيار المتداول، ولسبب أكثر بساطة، التمسك بالمفاهيم الديمقراطية من قبله، تعفيه من أي تهمة رمزية تاريخية. تداول الأجيال، كما تداول السلطة هو في أصل وروح المفاهيم الديمقراطية، التي لا تبقي رمزاً أبدياً وتاريخياً. ما لم يقنعني به هذا الرجل، هو تمسكه بروح متفائلة تتعلق بآمال طموحة لشعب في ظل حالة الانكسار والأزمات، ربما كرجل يشعر بالمسؤولية، أقدر على التمسك بأهداب الأمل، وكوني غير ذلك، فإني أعتقد أن موقعه لا يسمح له بقراءة موضوعية متشائمة، بخلاف المواطن العادي مثلي، الذي من حقه أن يرى أن الآمال تتراجع وأن لا نهاية للنفق المظلم، إذا كان هناك من نفق حقاً!!