لو وضعنا مهندساً في جزيرة مهجورة ليس فيها شيء من تقنيات العصر الحديث، وطلبنا منه استخراج الزيت من السمسم، أو صناعة سبيكة برونزية، أو حياكة قطعة قماش.. من شبه المؤكد أنه سيعجز عن ذلك، حتى لو توفرت لديه المواد الأولية.. الغريب أن الإنسان القديم تمكن من ذلك، بل إنه في عصور لاحقة أنجز أعظم الحضارات، في مصر القديمة، ووادي الرافدين، والصين وغيرها!
وحتى بعد الميلاد بقرون عديدة، تجلت عبقرية إنسان ما قبل الحداثة، فمثلاً صنعت قبائل «الفايكنغ» سيفاً حاداً، شديد الصلابة، من معدن خاص، عجزت تقنياتنا الحديثة عن فهم تركيبته.. وكذلك فعل محاربو «الساموراي»..
فهل كان الإنسان القديم (على المستوى الفردي) أذكى من الإنسان الحالي، بينما العقل الجمعي الآن أذكى، وأكثر معرفة، وأغزر علماً؟ فمثلاً لدى الطالب الجامعي معرفة وعلوم أكثر مما كان لدى أفلاطون أو الفارابي.. لكنه أقل ذكاء منهما بالتأكيد.
ربما لعبت ظروف الطبيعة القاسية والمخيفة دوراً في شحذ تفكير الفرد في عصور ما قبل التاريخ، وجعلته يتوصل لحلول مدهشة لمشكلاته.. فاخترع حينها أشياء تبدو لنا اليوم عادية أو ساذجة، بينما كانت في وقتها شديدة الأهمية، مثل الإبرة، وصنارة الصيد، والحربة، والمركب الشراعي، والناي، والأواني الحجرية ودباغة الجلود، والنسيج.. وصولا إلى الاختراع الأهم (الأبجدية)، ثم اختراع العجلة، وبناء البيت، وصياغة القوانين الاجتماعية.. وصولاً لبناء الحضارات.
في بدايات هذه المسيرة الطويلة، كان متوسط عمر الإنسان لا يتجاوز 25 سنة، وفي هذه الحياة القصيرة والبائسة لم يكن لديه ترف الوقت، فلم ينشغل بالفلسفة والتأمل، ولم يصنع إلا ما يحتاجه بشدة.. لكنه بعد الثورة الزراعية بدأ يستقر، وصار لديه موفور من الغذاء، وبيت آمن، ووقت أطول.. وبدافع الفضول والحاجة واصل رحلته «العلمية»؛ من عربات تجرها الدواب إلى الطائرات النفاثة، ومن التضور جوعاً حتى مطاعم الوجبات السريعة، ومن الموت من أبسط الأمراض؛ حتى اختراع لقاحات فايزر وسبوتنيك، ما أطال عمره، وجعل حياته أسهل، وصارت التحولات العميقة تحتاج سنوات قليلة أو أشهراً معدودة بعد أن كانت تستغرق عصوراً طويلة ومملة.
وهكذا انتقل من عصر إلى آخر، من الصيد إلى الزراعة، إلى عصر الآلة البخارية، ثم الكهرباء، فالإنترنت، حتى الوصول إلى المريخ.
ومن تتبع هذه المسيرة، سنلاحظ أمرين غريبين، الأول: أن الحضارات القديمة انتهت، دون أن تترك من إرثها إلا الأساسيات العامة، واختفت معها علوم كثيرة، وظلت أسرارها حبيسة، فمثلاً لم نعرف حتى الآن كيف بنى المصريون القدماء الأهرامات، ولم نكتشف أسرار التحنيط.. الثاني: انقطاع وتوقف مسيرة العلم لخمسة قرون متواصلة.. فبعد مقتل هيباتايا، وحرق مكتبة الإسكندرية في القرن الرابع، والدخول في الحروب الدينية تعطلت مسيرة العلم، إلى أن جاءت كوكبة من العلماء المسلمين والعرب في العصر العباسي وحركوا عجلة العلم والحضارة من جديد. (الكندي، والخوارزمي، والجاحظ، والراوندي، والرازي، والفارابي، وابن سينا، وابن الهيثم، والبيروني..).
بعد حضارات مصر القديمة وبلاد الرافدين، بزغت الحضارة اليونانية بفلسفتها التأملية، فظهر فيثاغوروس وسقراط وأفلاطون وأرسطو وأرخميدس.. ثم جاء الرومان بهندستهم وتنظيمهم ومعمارهم، في تلك الفترة ظهر الفلكي المصري بطليموس والطبيب جالينوس، كما كانت الحضارة الفارسية، وإلى الشرق منها الحضارتان اليابانية والصينية المتفردتين والمنعزلتين عن العالم. الصينيون القدماء حوّلوا الاكتشافات إلى اختراعات عملية، فاخترعوا البوصلة عام 270، والطباعة عام 700، والبارود عام 1000، كما برعوا في الفلك والطب.
لكن تطبيقات العلم ظلت محدودة، حتى الثورة الصناعية، قبلها كان العلم يعتمد على الحدس والحكمة وعلم الكلام، ويتصف بالعمومية. وكانت أدوات المعرفة المتاحة وسبلها المتبعة تخلط أحياناً ما بين الفيزياء والأساطير، وبين الكيمياء والخيمياء، وبين علم الفلك والتنجيم، وبين الباراسيكولوجي وتلبيس الشياطين، وبين ما عجز العلم عن تفسيره والسحر والقوى الماورائية. وهذا ليس بغريب، فالقياسات الدقيقة لم تكن متوفرة في تلك الأزمنة القديمة.
فالنظام الرياضي العشري مثلاً جاء عن طريق الهندوس عام 700 م. وإشارات الزائد والناقص والجبر ظهرت في القرن الثاني عشر مع علماء المسلمين، أما الساعات الدقيقة التي تحسب الوقت بأجزاء ضئيلة من الثانية، والموازين التي تقيس أجزاء بالبليون من الغرام، والأجهزة التي تفحص كل شيء مهما بلغت دقته أو بعُدت مسافته، فلم تظهر إلا في العصر الحديث.
وفي عصر التنوير اقترب العلماء من الطبيعة بعد تحررهم من سلطة الكنيسة، واتباع المذهب العقلي والتجريبي، فتألقت الفلسفة.
بعد جاليليو وكوبرينيكس وكليبر ودافنشي ونيوتن.. وفي القرون الثلاثة الأخيرة جرت اختراقات جوهرية في فضاء العلم، شهدت العديد من أهم الاكتشافات والاختراعات والنظريات العلمية والفلسفية، قلبت كل شيء رأساً على عقب، وفتحت آفاقاً لم تكن البشرية تتصور حتى وجودها؛ فخلال هذه الحقبة الأهم في تاريخ الإنسان من الناحية العلمية، جاء «دارون» بنظرية التطور، واكتشف كل من «باستور» و»كوخ» وجود الميكروبات، وابتدعا علم اللقاحات، واكتشف «إيجكمان» أن نقص بعض المواد الغذائية يسبب الأمراض، فتوصل للفيتامينات، وصنف «لينويز» النباتات والحيوانات، وميز «لافوازيه» الأكسجين عن سائر الغازات، واخترع «تورشيللي» البارومتر، وصمم «جويرك» المضخة الهوائية، واستدل «مندل» على علم الوراثة، واكتشف «هارفي» الدورة الدموية، واخترع «أديسون» المصباح الكهربائي، واكتشف «تيسلا» التيار المتردد، وفسر «ماكسويل» طبيعة الضوء الكهرومغناطيسية، واكتشفت «مدام كوري» الراديوم، واكتشف «فيلمينج» البنسلين، ووضع «دالتون» النظرية الذرية، وطرح «أينشتاين» نظريته النسبية، وفسّر «فارداي» الموجات الكهرومغناطيسية، وأسس «ماكس بلانك» الفيزياء الكمية، واقترح «نيلس بور» نموذجاً لفهم البنية الذرية، واخترع «ماركوني» الراديو واللاسلكي، واخترع «زوركين» التلفزيون، وصمم «كيرتشهوف» الدوائر الكهربائية، واخترع «جراهام بيل» الهاتف، وتمكن كل من «واتسون» و»كريك» من التعرف على جبلة الحياة الأساسية DNA، ثم أكد كل من «بزنياس» و»ولسون» على نظرية الانفجار العظيم، وفي أواخر التسعينات أطلق العلماء تلسكوب «هابل» الذي اكتشف عوالم تفوق بكثير ما كان يظنه «أينشتاين» كل الكون.
ولكن، يجدر القول إن كل تلك الفتوحات العلمية تدين في واقع الأمر للعصر الذهبي للحضارة الإسلامية، في الفترة ما بين (800 ~ 1100م)؛ التي وضعت خلالها اللبنات الأساسية في الرقي والحضارة والبحث العلمي، وأوقدت مشعل التجديد والابتكار الذي تدين له أوروبا بالفضل، وقد حقق فيه العلماء العرب والمسلمون أهم الاختراعات والاكتشافات في الرياضيات والطب والفلك والفلسفة والكيمياء، والتي كانت الأساس الذي قام عليه عصر النهضة وعصر التنوير.