تونس فخر العرب

BdsJ4.jpeg
حجم الخط

بقلم رجب أبو سرية

 

 

 

لا يمكن القول بأن الرئيس التونسي، المدني المنتخب مباشرة من الشعب بشكل ديمقراطي تماماً، حتى أنه خاض جولة ثانية مع مرشح كان رجل دولة ورجل مال قوياً في تونس، مقابل الرجل المتواضع، الذي تطوع الشباب والنساء لدعم حملته الانتخابية، وفي ظل حكومة نهضة، بأنه رجل خارق، أو أنه قد هبط من الفضاء، أو من عالم الغرب، أو من دولة اسكندنافية، بل هو رجل عربي تونسي، لكنه استطاع أن يضع حداً للفساد، وبعد أن نجح من قبله الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي في إسقاط الرئيس الإخواني المنصف المرزوقي، أول رئيس بعد نظام حكم الفرد المستبد، الذي كان يرأسه زين العابدين بن علي، لكن حركة "النهضة" بقيت تشكل الأغلبية في البرلمان وبالتالي شكلت الحكومة، استطاع أن يطيح بـ "النهضة" بقرار دستوري.
بعد رحيل السبسي، توقع كثير من المراقبين أن تقوم "النهضة" بحكم أغلبيتها البرلمانية وكون الحكومة حكومتها، باحتواء الرئيس الجديد الذي كان "معلقاً" في الهواء، بحكم أنه لا يعتمد على حزب ينتمي إليه، ولا تجمع برلماني، كما كان حال السبسي، لكن الرجل، الذي منذ دخل بيت الرئاسة، وجد "النهضة" شريكاً مناكفاً في الحكم، بشكل يشبه إلى حد بعيد، ما كان عليه حال الرئيس محمود عباس، مع الفارق الذي يتمثل في كون الرئيس عباس، كان في موقع الرئاسة قبل أن تفوز "حماس" بالأغلبية البرلمانية فيقوم هو بتكليفها بتشكيل الحكومة، وذلك عام 2006، ومنذ ذلك الوقت ورغم أن "حماس" ارتكبت جريمة الخيانة الوطنية العظمى، حين أقدمت على فض شراكة الحكم بقوة السلاح، وشق الوطن الفلسطيني لنصفين، والذهاب به لحالة من الانقسام اللعينة التي ما زالت قائمة إلى الآن، إلا أن النظام الفلسطيني لم يستطع أن يطيح بها خارجاً.
أي أن موقف الرئيس قيس سعيّد كان أصعب عملياً، لكن الرجل الذي لا يستند إلى حزب، استطاع بعد أقل من عامين من توليه مقاليد الرئاسة أن يطيح بـ "النهضة"، وبشكل حاسم، حين أعلن أحكام الطوارئ، واستخدم صلاحيته الدستورية بالكامل، حيث قام بحل حكومة "النهضة"، وحل البرلمان، بكل جرأة وشجاعة، مبعثها بتقديرنا الدعم الشعبي الذي يشعر به الرئيس التونسي، هذا من جهة ولكن من جهة ثانية، لا بد من الوقوف أمام ما تحلى به من شجاعة، حتى وهو يواجه الضغط الغربي، الأميركي خاصة، ثم أن ينتهي به الأمر بتكليف سيدة برئاسة الحكومة، على غير ما هو معتاد في العالم العربي، حيث تتولى النساء مناصب وزارية هامشية، ولأول مرة تتولى سيدة عربية موقع رئيس الحكومة المرموق.
لو قارنّا ما يقوم به الرئيس قيس سعيد بما تقوم به حركة طالبان التي عادت لتولي زمام الحكم في أفغانستان بعد 20 عاماً من طردها من الحكم، وملاحقتها عسكرياً وسياسياً من قبل أميركا والغرب، حيث أنها خلال أول شهر لها بعد أن عادت إلى الحكم، لم تقابل بهجرة نحو مئة ألف أفغاني من البلاد وحسب، بل إنها سارعت لإصدار فرمان قهري خاص بالنساء، تضمن جملة من القرارات والتعليمات التي تعود بها إلى عصر الحريم، حيث سارعت إلى منعهن من الخروج من بيوتهن دون حجاب، كذلك ألزمتهن بالجلوس في البيوت، وقامت بطردهن من مواقع العمل، سواء كُن معلمات في المدارس أو موظفات في البنوك والمؤسسات والشركات، وسارعت إلى وضع الحواجز والفواصل ومنع الاختلاط في الجامعات وغيرها.
والحقيقة أن التجربة التونسية بقدر ما هي تثير الإعجاب، وتبعث على الفخر لكل العرب، فإنه لا بد من التوقف عندها مطولاً لاستخلاص العبر، وتعلم الدروس، ليس لأنها كانت فقط أول دولة دقت ناقوس الخطر، وقامت بوضع حد لحكم الفرد المستبد، وحسب، فما قام به الشعب التونسي في كانون الثاني 2011، كان ضرورياً، حين أقدم الشعب على ثورة شعبية سلمية، أسقطت الطاغية، وتبعها عدد من الشعوب العربية، في مصر، ليبيا، اليمن، سورية، وكثير من الدول، التي لم تستمر فيها ثورات الربيع العربي، في ذلك العام، لكن تجربة تونس تعتبر مختلفة، فهي الأنضج عملياً وفق ما حدث لاحقاً، تلتها التجربة المصرية، ففي مصر وبعد إسقاط الشعب التونسي لنظام حكم زين العابدين بن علي، بشهر تقريباً، نجح الشعب المصري في إسقاط نظام حكم حسني مبارك، وبشكل سلمي ودون وقوع الكثير من الضحايا، أما في اليمن وليبيا، فقد دخلت الثورة ضد نظام حكم الفرد في نفق حرب أهلية، أدت إلى إسقاط الرئيسين معمر القذافي ومقتله، والى سقوط عبد الله صالح، ومقتله لاحقاً أيضاً، في حين فشلت الثورة في إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد، وإن كانت النتيجة في الدول الثلاث كارثية، على صعيدي الضحايا وانهيار اقتصاد البلاد، وبل وتقسيمها وخرابها.
أما إسقاط الإخوان في مصر فقد احتاج لتدخل المؤسسة العسكرية ممثلة بالجيش، وما تبع ذلك من مشاكل داخلية، انعكست على علاقات مصر ببعض الدول المتحالفة مع الإخوان، وكذلك في ظهور بعض المشاكل الأمنية الداخلية، بعد أحداث ميدان رابعة وغيرها، أما في تونس، فإن تداعيات الأمر ما زالت تجري بسلاسة، رغم أن "النهضة" تعرضت مرتين للخسارة، مرة حين نجح حزب "نداء تونس" والباجي قايد السبسي بالفوز بالرئاسة بعد أن ترأسوها هم عبر المرزوقي، ثم مرة ثانية بعد فوز قيس سعيّد، الذي للأمانة لم تكن "النهضة" ضد ترشحه، بل كانت تفضله على منافسه، لكن ليس بعد أن حل حكومتها والبرلمان الذي تتمتع فيه بالأغلبية.
ملخص القول، بأن ما يميز نظام الدولة في تونس، منذ الاستقلال، وبفضل اللبنات الأولى التي أرساها الحبيب بورقيبة، هذا الذي حين جاء للضفة الغربية عشية حرب عام 67، نصح العرب بالتفاوض مع إسرائيل وتجنب الحرب التي رأى أنها ستكون خاسرة، قد فصل بين الاستبداد السياسي والمساواة الاجتماعية، فصحيح أن النظام السياسي استند لحكم الفرد، لكن على الصعيد الاجتماعي طبقت تونس حزمة متقدمة فيما يخص الحياة الاجتماعية بشكل ليبرالي، خاصة فيما يتعلق بمكانة المرأة وحماية الأسرة، حيث منعت تعدد الزوجات، وساوتها بالرجل فيما يخص الإرث، وفتحت لها أبواب الشراكة في العمل والحياة، كما أن النقابات واتحاد الشغل، العمال والمثقفين والفنانين في تونس يعتبرون قاعدة صلبة لحماية منجزات التقدم الاجتماعي، وقد استعدت النهضة على رغم ما تظهره من مرونة وعدم تشدد، النساء التونسيات مبكراً، ومنذ عام 2013، حين كانت الحركة في أوج قوتها بعد إسقاط بن علي، حين بدأت تفكر أوساطها بالتراجع عن منجزات المرأة فيما يخص حقل المساواة مع الرجل، بدءاً بالحديث عن إسقاط قانون منع تعدد الزوجات، إلى رعاية النهضة لتسرب آلاف التونسيين إلى داعش في سورية، وهكذا فإن اختيار سعيد للسيدة نجلاء بودن، بقدر ما هو تتويج لكفاح المرأة التونسية، هو أيضاً فعل نقيض لمنطق وعقيدة السلفية السياسية العربية.