يشهد شمال قطاع غزة، منذ أزيد من 80 يوماً، حصاراً رهيباً من الاحتلال الإسرائيلي الذي يواصل بطشه وعدوانه الذي لا يفرق بين بشر وشجر وحجر، اللهم سوى تدمير غزة وتحويلها إلى كتلة ضخمة من الركام، وترك الفلسطينيين إلى المجهول.
كل معالم غزة تغيرت بفعل آلاف الأطنان من المتفجرات التي ألقيت على القطاع، إلى درجة أنه يستحيل العيش في هذه المنطقة المنكوبة، هذا إلى جانب انعدام الأمن الغذائي والصحي، وتحوّل أغلب المجتمع الفلسطيني في غزة إلى جيش من العاطلين عن العمل.
خطة إسرائيل، ممثلة برئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، تقضي بالقضاء على غزة وكل من في داخلها، وهذا ما يحدث بالضبط سواء في الشمال من استهداف السكان وتجويعهم، وحتى قتل الصحافيين والعاملين في المستشفيات والقطاع الصحي، وإلى الوسط والجنوب حيث يرتقي المزيد من الشهداء.
المشكلة أن غزة، التي كانت تصدح أخبارها على شاشات التلفاز والقنوات المحلية والدولية وتحتل مساحة كبيرة من التغطية الإعلامية، تحولت إلى خبر ثانوي أو ربما هامشي بالنسبة لبعض المحطات، وهذا الموضوع مرتبط بطبيعة الحال بسياسات الدول.
اليوم غزة تترك إلى مصيرها المجهول، فلم تعد تحرك صور القتل والدماء واستهداف الأطفال والنساء ضمائر العالم. نعم هناك الكثير من المتضامنين مع ما يجري في القطاع، لكن لا يوجد ذلك التأثير الذي يمنع إسرائيل من ارتكاب انتهاكات يومية.
نتنياهو الذي يماطل في صفقة مع "حماس" يعطي جيشه الضوء الأخضر لتسريع وتيرة القصف واستهداف المباني وكل ما يتعلق بالبنى التحتية الخدمية وغير الخدمية في غزة. هم يريدون إخراج القطاع عن الخدمة، وجعل الناس يفكرون مليون مرة بتبعات التورط في حرب مع إسرائيل.
وهذه المرة تريد إسرائيل أن تنهي مسألة جولات الحرب عبر وضع حدود وقوانين للتعامل مع غزة، والخوف أن يسكت المجتمع الدولي أو يتقبل فكرة احتلال مناطق من غزة وتقسيمها إلى معازل، وتقييد حركة الناس ومنعهم من التواصلَين الديموغرافي والجغرافي.
بالتأكيد لو استعاد نتنياهو كل الأسرى الإسرائيليين لدى "حماس"، لن يوقف هذا العدوان المجنون على الفلسطينيين، لأن لديه خطة تقضي بتصفية القضية الفلسطينية، وجعل الناس يفكرون في الأولويات الملحة كالحاجة للمسكن والغذاء والصحة، وعدم الاهتمام بالقضايا الكبرى.
استهدافه غزة بهذه الطريقة الهمجية وغير الحضارية، رسالة للرأي العام الإسرائيلي أنه مع سلامة أمنهم الإستراتيجي، وهو الأكفأ من غيره في إدارة أمور البلاد، وكذلك رسالة للفلسطينيين في الضفة الغربية وأراضي 48 أن عليهم الخضوع للسياسات الإسرائيلية، وإلا فإن حالهم سيكون كحال سكان غزة.
ضعف المجتمع الدولي، وفي القلب منه العرب، جعل نتنياهو يستأسد ويستفرد بغزة، ويتباهى بأنه سيغيّر ملامح الشرق الأوسط، و"الخازوق" أن هناك الكثير من الدول تدعمه وتقدم له مختلف أنواع الحماية حتى يحقق مصالحه في فلسطين والفضاء الإقليمي.
كذلك الحال يتضح يوماً بعد يوم أن المعارضة الإسرائيلية أصبحت جزءاً من السياسة الإسرائيلية الرسمية، وما يجري في ساحة الإعلام من تصريحات هي للاستهلاك المحلي، والواقع يشي أن المجتمع الإسرائيلي يتبنى عقيدة نتنياهو في إخراج غزة من خارطة العالم.
الآن المعادلة شبه واضحة بخصوص قطاع غزة، إذ أولاً صوت المجتمع الدولي يخفت مع الوقت، والصوت العربي غير موحد ومنقسم على نفسه، والأميركان في ظهر إسرائيل سواء أكانت ظالمة أو مظلومة، والنتيجة قد تكون صورة سوداوية لمستقبل غزة.
ثم إن أي مأزق سياسي لنتنياهو سواء على صعيد التهم الموجهة إليه، أو اختلاف حزبي حول سياساته، كل ذلك سيجعله يصب الزيت على النار في غزة حتى يصرف الانتباه عنه، وبالتالي قد تكون غزة خشبة الخلاص بالنسبة لرئيس الحكومة الإسرائيلية للتعامل مع مختلف التحديات التي تواجهه.
على الأغلب أن يقنع الرئيس الأميركي المنتخَب دونالد ترامب صديقه نتنياهو بالذهاب إلى صفقة مع "حماس"، مقابل إطلاق يده في الضفة الغربية نحو بناء المزيد من المستوطنات، ودور أميركي في تغيير ملامح غزة وإنهاء حكم "حماس" فيها.
طالما أن العرب في مرحلة الانقسام والسبات العميق، فإن نتنياهو المحمي بحلفائه الإستراتيجيين، يصول ويجول في المنطقة، ويلعب في ملعب غزة دون أن يكترث لأحد، والأنكى أنه سيمضي في تغيير شكل الشرق الأوسط وعلى "عينك يا تاجر".