في معرض التعليق على كتاب "خطر" لبوب ودوارد، وروبرت كوستا، الصادر قبل أسبوعين، توقفنا عند دور الجنرال ميلي، رئيس هيئة رؤساء الأركان المشتركة للقوات المسلّحة الأميركية، في إحباط محاولة ترامب الانقلابية. وليس من السابق لأوانه القول: إن هذا الدور لم يغب، ولن يغيب، عن أعين خبراء العلاقات المدنية - العسكرية، وعلاقة هذا كله بالنظام الديمقراطي، وإن خلاصاتهم النهائية لن تتضح قبل مرور وقت طويل.
لا يتسع المجال للاستطراد في هذا الجانب. وبقدر ما أرى، فإن ما يتعلّق بالمسألة الفلسطينية، والشرق الأوسط، عموماً، يحظى بالأولوية من جانبي، ويفسّر الاهتمام بكتاب ودوارد، وغيره، عن أيام ترامب الأخيرة، وعن ظاهرة هذا الكائن بشكل عام.
وعلى خلفية كهذه ثمّة ما يبرر الكلام عن مفاجأة، تبدو للوهلة الأولى، صادمة. فلا وجود لفلسطين، وعرب ترامب وغيرهم، وحتى إسرائيل، في الكتاب المذكور. (ولا في غيره، وهذا موضوع آخر) فالموضوعات التي توقفا عندها تخص الصين وأفغانستان وروسيا وإيران.
فهل هذا يعني أن أحداً في البيت الأبيض لم يتكلّم مع ترامب، أو يسمع منه، عن قضايا الشرق الأوسط ذات الصلة بإسرائيل والعالم العربي؟ وهل هذا يعني أن سياسته في هذا الجزء من العالم، وفي أيامه الأخيرة على نحو خاص، وقد كانت انقلاباً حقيقياً على السياسة التقليدية لأسلافه، لم تثر اهتمام أحد ولو في معرض التعليق والسؤال والنقاش؟ الإشارة الوحيدة التي ترد على لسان ترامب في معرض الكلام عن زوج ابنته كوشنر أنه يدين بالولاء لإسرائيل أكثر من ولائه للولايات المتحدة.
قبل الاجتهاد في تفسير هذه المفاجأة الصادمة، ثمة ما يبرر التذكير بعبارة شائعة لرئيس مجلس النوّاب الأميركي، تب أونيل في الثمانينيات، يقول فيها: إن "كل السياسة محلية"، بمعنى أن السياسة الخارجية تعكس حقائق وموازين قوى ومصالح ورهانات داخلية. فهل كانت السياسة الخارجية الأميركية محليّة، فقط، في روسيا وأفغانستان والصين وإيران؟ وماذا عن علاقة المحلي الأميركي بالموازين والمصالح والرهانات في الشرق الأوسط، بمعنى العالم العربي بشقَيه الحضر والبوادي؟
ولنتذكّر أن الأسابيع التي سبقت الانتخابات الرئاسية، وأعقبتها، وحتى يوم المحاولة الانقلابية في واشنطن، شهدت نشاطاً محموماً في سياسة ترامب الخارجية في هذا الجزء من العالم، خاصة في معرض تقديم جوائز إستراتيجية غير مسبوقة لإسرائيل: قبل الانتخابات الرئاسية بستة أسابيع وقّع على، وبارك بصفة شخصية، "سلام إبراهيم" مع نتنياهو ووزيرَي خارجية الإمارات والبحرين. وبعد الانتخابات بخمسة أسابيع أعلن في تغريدة عن تطبيع العلاقة بين إسرائيل والمغرب.
ويوم المحاولة الانقلابية نفسها في واشنطن، في السادس من كانون الثاني 2021، أشرف وزير ماليته بنفسه، في الخرطوم، على إعلان السودان عن تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وقدّم مكافأة مالية وسياسية للمجلس الانتقالي الحاكم. وتُضاف إلى هذا كله شائعات وتسريبات عن زيارة نتنياهو السرية إلى دولة عربية واحدة على الأقل، وشائعات عن اتصالات تحت الطاولة، خلال الفترة الزمنية نفسها.
معنى هذا في لغة السياسة أن ترامب قلب الوضع الإستراتيجي في الشرق الأوسط في غضون ثلاثة أشهر، لا غير، على طريقة الفيل في دكّان الخزف، استجابة لمصالح حليفه الإسرائيلي نتنياهو، وقد حاول دعمه بكل وسيلة ممكنة للبقاء على رأس الحكومة في إسرائيل. فهل يُعقل أن يحدث هذا كله دون نقاش للربح والخسارة في أروقة البيت الأبيض والبنتاغون وأجهزة الأمن ووزارة الخارجية؟ وكيف نفسّر هذا كله على قاعدة أن "السياسة محليّة"، أين المحلي الأميركي هنا؟
لا وجود لهذا كله في كتاب ودوارد، وغيره (كما ذكرنا) ولكن ثمة إشارة موحية وردت في كتاب مايكل وولف "فوز ساحق"، عن أيام ترامب الأخيرة، الذي تكلمنا عنه في معالجة سابقة. تقول الإشارة: إن ترامب حرص على معرفة مواقف قادة الدول الأجنبية من نتائج الانتخابات. هل اعترفوا بفوز بادين أم لا. وفي هذا الصدد، غضب على نتنياهو، الذي سارع إلى تهنئة بايدن، أكثر من غيره، وبطريقة هستيرية تقريباً، لأنه فعل من أجله ما لم يفعله أحد من قبل.
خلاصتي: استحالة فهم وصول كائن من طراز ترامب إلى الرئاسة، ومحاولة البقاء فيها، دون وضع المسألة الإسرائيلية، في الحسبان. واستحالة تفسير سياسته الخارجية في هذا الجزء من العالم، خاصة في أيام أخيرة سبقت الانتخابات، وحتى يوم المحاولة الانقلابية، بعيداً عن حسابات ورهانات على الورقة الإسرائيلية - اليهودية في السياسة المحلية الأميركية.
ترامب لا يحب أحداً (سوى ترامب) ولا يكره أحداً، ولا يؤمن بشيء أو يُعادي شيئاً، إلا بحسابات الريح والخسارة، بالمعنى الشخصي، والضيّق جداً للكلمة، وعلى طريقة هنري فورد، وأجيال من حيتان البزنس في الغرب (التحق بهم عرب النفط في وضح النهار، أخيراً) يعتنق قناعات معادية للسامية في الجوهر، ويؤمن على الأرجح بأن لليهود، والإسرائيليين، قوّة استثنائية في العالم، وفي أميركا على نحو خاص.
لذا، لا يتورّع عن اللعب بهم، وعليهم، كورقة رابحة على أمل الوصول إلى البيت الأبيض، أو البقاء فيه. في سيرته الكثير من علامات وشواهد الوهمي والمتوّهم في مخيال العداء للسامية من ناحية، ونتائجها المأساوية من ناحية ثانية.
يختفي مخيال كهذا، كما صاحبه، في وضح النهار، كما يُقال بالإنكليزية. فالحسابات الموضوعية هي التي أضفت على الشرق الأوسط مكانة خاصة في زمن الحرب الباردة. والحسابات نفسها تضفي عليه أهمية أقل في زمن تغيّر الأولويات الإستراتيجية. ولعل في هذا ما يفسر أشياء كثيرة، ويقلل من وقع مفاجأة صادمة.
مفاجأة لمرضى السكري قريباً: الإنسولين عبر الفم
21 يناير 2024