كان أهم وأخطر ما قامت به إسرائيل محاولاتها المنهجية لإلغاء الصفة الوطنية والقومية للفلسطينيين، أي إلغاء الكيانية السياسية الفلسطينية، ومحاربة أي مسعى لتجميعها وإحيائها، والتعامل مع من بقي من الفلسطينيين في حدود إسرائيل كأقلية على هامش المجتمع، وتطويع وعيهم، والسيطرة عليهم بطرق عدّة، بما يخدم أهداف الكيان الحديث النشأة في البلاد.
في النقب، كما في الجليل والمثلث، عمدت إسرائيل إلى تهويدها، ليس بمصادرة الأرض فقط، وإنما بترحيل سكانها، عنها وتجميعهم في معازل، وهناك 38 قرية بدوية ترفض السلطات الاعتراف بها.
كما استخدمت التعليم كجهاز للسيطرة عليهم، وكيّ وعيهم، وتدجينهم وأسرلتهم وسلخهم عن سائر أبناء شعبهم من خلال المناهج والأنشطة، وتحكم «الشاباك» بكل ما يدور في المدارس العربية.
في المحصِّلة، بات المجتمع الفلسطيني في البلاد يعيش في مستوى معيشة منخفض؛ فنسبة البطالة ونسبة الفقر مرتفعتان إلى درجة بالغة، ويفتقر الكثير من القرى إلى الخدمات الصّحيّة، التّربويّة، والبنية التّحتيّة الأساسيّة، ونصف العائلات العربية يعيش تحت خط الفقر، ونسبة الفقر في وسط العائلات العربية تزيد على المعدل القطري بأكثر من ضعفين ونصف الضعف.
بسبب الظروف الخاصة التي عاشها الفلسطينيون في إسرائيل تشكّل مجتمعهم الجديد بمواصفات خاصّة.
فقد ترك نظام الحكم العسكري آثاره البالغة والعميقة، وأعاق تطوّره الطبيعي، وحرم المواطنين من حقهم في تشكيل أحزاب سياسية أو مؤسّسات تمثيليّة أو منظمات مجتمع مدني خاصة بهم.
وبالرغم من كل الإجراءات والسياسات الإسرائيلية ومحاولات التهويد والأسرلة، إلا أن السكّان العرب في البلاد لم يخضعوا إلى هذه السياسات، بل إنهم ناضلوا للتغلّب عليها ومقاومتها، وبالرغم من تقبلهم الانصياع لقوانين الدولة العبرية رغما عنهم، مع تسليمهم بوجودها في ظل اختلال موازين القوى بين الطرفين؛ إلا أنهم لم يكونوا مستعدين للتماثل مع مشاريع الأسرلة والتهويد، ومحاولات فرض مشاعر الولاء تجاه الدولة.
وقد عبّـر فلسطينيو الداخل في أكثر من موقف، وبأشكال متعددة عن انتمائهم القومي، بامتداده العروبي والإسلامي، وتمسكهم بهويتهم الوطنية، ورفضهم التماهي مع مخططات الدمج والإذابة الإسرائيلية، وقد ظهر ذلك جليا عبر نتاج أدبي وثقافي واعٍ أنتجه جيل من الشعراء والأدباء والمثقفين، من أبرزهم توفيق طوبي، إميل حبيبي، محمود درويش، سميح القاسم، توفيق زياد، راشد حسين.. وغيرهم.
في زمن الانتداب البريطاني تأسس الحزب الشيوعي الفلسطيني (1919) على يد مجموعة من اليهود المهاجرين المتأثرين بالفكر الماركسي، وفي العام 1923 تم تعريب الحزب رسميا، وبعد النكبة انضم من تبقى من عصبة التحرر الوطني الفلسطيني إلى الحزب الشيوعي، ليصبح اسمه الحزب الشيوعي الإسرائيلي، الذي ضم يهودا وعربا، وكان الحزب الوحيد غير الصهيوني الذي شارك في الانتخابات، ويعرّف الحزب عن نفسه كحزب ثوري يصبو إلى السلام والمساواة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والتغيير الاجتماعي، ويناضل من أجل الاشتراكية، ويعتبر الحزب أن الصهيونية حركة رجعية.. وظل الحزب الملاذ الوحيد للعرب الفلسطينيين داخل إسرائيل، والذي من خلاله يناضلون ضد العنصرية، ولتحسين حياتهم، وتحقيق المساواة والعدالة، ولرفع المظلومية عنهم.
وفي العام 1977 تحالف راكاح مع جهات يسارية أخرى من ضمنها حركة الفهود السود الإسرائيلية ضمن قائمة مشتركة حملت اسم الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة.
وفي نهاية الخمسينيات بدأت تظهر علامات تململ وانبعاث للحركة الوطنية الفلسطينية داخل إسرائيل، وقد مثَّل المد القومي الناصري بيئة مناسبة لها، وكانت «حركة الأرض»، عنوانا لحالة نهوض وطني، عبر عنها قادة وطنيون من أمثال صالح برانسي، ومنصور كردوش، وحبيب قهوجي، وغيرهم.
ومع تنامي الوعي الوطني ظهرت مجموعة قومية عربية يسارية تحمل اسم «حركة أبناء البلد»، التي بدأت نشاطها في أم الفحم. بعد ذلك أسس نمر درويش الحركة الإسلامية تحت واجهات اجتماعية متعددة، والتي أخذت تطالب بتحرير أملاك الوقف الإسلامي، وحق المسلمين في إدارة شؤونهم، وتعيين القضاة في المحاكم الشرعية. ثم استطاعت الحركة الدخول إلى الكنيست، بحصولها على مقعدين.
وبعد سنوات قليلة من انطلاقة الثورة الفلسطينية في الخارج، وبدءا من السبعينيات بدأت تظهر آثار حالة التنامي في الشعور القومي لدى فلسطينيي الداخل، ما أدّى إلى تنظيمهم قطريًّا ومحلّياً وتحوّلهم من «بقيّة باقية» إلى مجتمع. من أهمّ هذه المستجدّات: ظهور مؤسّسات وأطر سياسيّة وتمثيليّة واجتماعية مختلفة مثل اللجنة القطريّة لرؤساء السلطات المحليّة العربية، ولجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في إسرائيل؛ وكذلك ظهور شرائح من المهنيّين والأكاديميّين ورجال الأعمال والحرفيّين؛ والأهمّ من هذا وذاك بلورة أطروحات سياسيّة تتحلّى بنبرة ورؤية جماعيّتين.
وقد مثّل العام 1976 نقطة مفصلية في مسيرة الحركة الوطنية في الداخل، عبر انتفاضة يوم الأرض في الثلاثين من آذار.
وفي الثمانينيات أخذ الظهور السياسي الفلسطيني شكلا آخر، فتأسست في العام 1983 الحركة الوطنية الديمقراطية، التي انفصل أعضاؤها عن الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، وفي العام التالي تشكلت القائمة التقدمية للسلام، وفي سنة 1988 استقال عبد الوهاب دراوشة من حزب العمل احتجاجا على قمع الانتفاضة الفلسطينية، وأسس الحزب الديمقراطي العربي، وفي العام 1995 أسس عزمي بشارة وآخرون حزب التجمع الوطني الديمقراطي كإطار تنظيمي لبعض القوى اليسارية، وفي العام 1996، أسس أحمد الطيبي الحركة العربية للتغيير.
وفي العام 2014 تشكلت القائمة المشتركة التي ضمت جميع الأحزاب العربية المشاركة في الكنيست (الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، الحركة الإسلامية - ما عدا الشق الشمالي -، التجمع الوطني الديمقراطي، القائمة العربية للتغيير)، وشاركت «القائمة المشتركة» في انتخابات الكنيست في دوراته المتلاحقة، وفي العام 2021 انشق التيار الجنوبي للحركة الإسلامية عن القائمة بقيادة منصور عباس، وشكل القائمة الموحدة التي فازت بأربعة مقاعد، وشاركت في حكومة نفتالي بينيت.
خلاصة القول، بصمودهم وإصرارهم على البقاء فوق أرضهم، ترك فلسطينيو الداخل بصماتهم على الدولة العبرية بشكل عام، حيث تزايد التأثير العربي كقوة سياسية وديمغرافية وحزبية مهمة، لهم مكانتهم في الصراع وفي التوازنات الداخلية، وقد باتوا قوة مؤثرة داخل الكنيست (في انتخابات 2015 حصلوا على 15 مقعداً، وفي انتخابات أيلول 2019، حصلوا على 13 مقعداً).
بيد أن ضعف التنظيم، وتباين الرؤى والاجتهادات، وعوامل أخرى قوّضت العديد من فرص تحسين أوضاعهم، وتقوية تأثيرهم.