كان يعلم أن لا ضرورة لهذه الزيارة، ولا جدوى من ورائها، ليس فقط لأنه لا يحمل في جعبته شيئاً، بل وأيضاً أن أحداً لا ينتظر منه أي شيء، جون كيري الذي زار رام الله والقدس المحتلة قبل أسبوعين، لم يقم بذلك باختياره ورغبته، لكن كان عليه زيارة الإمارات العربية لاعتبارات تتعلق بالملف السوري وتداعياته اثر الهجمات الارهابية على باريس وإسقاط الطائرة الروسية، ما أدى إلى توفر مناخات مستجدة لحل سياسي في سورية، يقال حسب وسائل الإعلام الأميركية، إن الرئيس اوباما طلب منه زيارة القدس ورام الله، بهدف ما سماه «وقف العنف» وإعادة الثقة المفقودة بين الجانبين، الفلسطيني والإسرائيلي، من المتوقع أن يكون كيري قد وافق على هذه الزيارة على مضض، كونه خالي الوفاض وليس لديه ما يقوله، خاصة وأن ملفات «العنف والثقة» لم تعد موضع بحث، بعد جولات عديدة، نوقشت خلالها هذه الملفات من خلال ما يسمى بالجهد الأميركي لاستئناف العملية التفاوضية، وبات الجميع يعلم أن ليس هناك من جدوى بإعادة فتح هذه الملفات.
إلاّ أن جون كيري لا يريد لجولته أن تفشل، أو على الأقل، ألاّ يتحمل مسؤولية هذا الفشل، لذلك حاول إنعاش تفاصيل ملفات سابقة، تتعلق أساساً بصفقة تدور حول «تسهيلات وسلام اقتصادي» مقابل ما أطلق عليه وقف العنف الذي أدانه محمّلا السلطة الفلسطينية مسؤولية ما يجري في الأرض الفلسطينية المحتلة، ومع أنه يعلم أن ليس هناك من طرف بقادر حتى لو توفرت الرغبة في الجانب الفلسطيني على وقف ما سماه العنف، إلاّ أن خلو جعبته من أي جديد، دفعه إلى استعادة هذه الملفات، وكما كان متوقعاً وبدون أي حديث عن مفاجأة، فشلت هذه الزيارة لكل من القدس ورام الله.
إلاّ أن هذه الزيارة لم تكن لتفشل تماماً بالنسبة لجون كيري، فقد خرج منها بانطباعات ودلالات، اعتقد أنها تعوض عن الفشل الواضح لهذه الزيارة، وفيما يبدو «استخلاصات أخيرة» استغل كيري كلمته أمام حضور مؤتمر مركز بروكينغز ليلخص حصيلة جولاته المكوكية المتعاقبة خلال تولّيه منصب وزير خارجية أميركا، وجهوده من أجل التوصل إلى حل سياسي للملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وعنون حصيلة هذه الجهود بمخاطر «انهيار السلطة الفلسطينية» مبدياً حرصاً مؤكداً وصادقاً، على أن هذا الانهيار يشكل خطراً داهماً على الدولة العبرية، شارحاً ذلك بقوله إنه «بدون قوات الأمن الفلسطينية سيضطر الجيش الإسرائيلي لنشر عشرات آلاف الجنود في الضفة الغربية إلى ما لا نهاية لملء الفراغ» متجاهلاً حقيقة أن الانتفاضة الثالثة مستمرة، وأن قوات الأمن الفلسطينية معنية أولاً وأخيراً بحفظ الأمن في مناطق سيطرتها، وأن معظم الأحداث تجري داخل المناطق المسيطر عليها أمنياً من الجانب الإسرائيلي.
تخوفات كيري تجاوزت الوضع الراهن في فلسطين المحتلة، إلى مستقبل الدولة العبرية، إذ إن انهيار السلطة الفلسطينية يعني انهيار حل الدولتين، وقيام دولة ثنائية القومية، وهو الامر الذي أثار حكومة نتنياهو التي بدأت حملة جديدة ضد كيري، الذي من المقرر أن يغادر مع ولاية نتنياهو الثانية، بعد بضعة أشهر، والذي وقبل هذه المغادرة حمّل الدولة العبرية مسؤولية فشل حل الدولتين، عندما أشار إلى أن إسرائيل تتبنّى هذا الحل لفظياً، نتنياهو تصدّى لهذه المقولات بالإشارة إلى ما سبق أن ردّده عدة مرات، حول التحريض الفلسطيني وعدم الاستجابة للاعتراف بالدولة العبرية كدولة يهودية، وأن الحل يكمن إضافة إلى هذا الاعتراف بقيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح بعد تسوية سياسية شاملة. وفي هذا السياق، يمكن العودة قليلاً إلى مجريات الأحداث في الضفة الغربية المحتلة بما فيها القدس، حيث المواجهات مع جيش وقوى أمن الاحتلال والمستوطنين، تجري بلا سلاح تقليدي متعارف عليه، وأن السلاح المستخدم لا يمكن نزعه على الإطلاق، فماذا ستفعل دولة الاحتلال حتى بفرض قيام مثل هذه الدولة، بفرض قبول الفلسطيني بها، وهو الأمر غير الممكن على الإطلاق، أمام سلاح متوفر بيد كل من يرغب في مواجهة مع الاحتلال؟!
والدرس المستخلص من هذه النتائج التي توصّل لها كيري، بنعيه جهود السلام والعملية التفاوضية، أن الإبقاء على ميزان القوى لصالح الدولة العبرية، هو الخطر المحدق بأي تسوية سياسية محتملة، والأمر هنا لا يتعلق فقط بسيطرة القوى اليمينية المتطرفة على مقاليد الحكم في إسرائيل، بل أيضاً بالمجتمع الإسرائيلي الذي بات أكثر عنصرية وعنجهية، بالنظر إلى امتلاكه للقوة الفائضة وإمكانيات استخدامها كلما اقتضت الضرورة من وجهة نظر هذا المجتمع وأدواته الأمنية والعسكرية، وكلما امتلكت الدولة العبرية عناصر القوة، العسكرية والأمنية والاقتصادية والثقافية والعلمية، بما يتجاوز كثيراً، تلك على المستوى العربي والفلسطيني، فإن ميزان القوى هو الذي يُملي في نهاية المطاف تفاصيل أي حل وأي تسوية، والمنتصر في نهاية الأمر هو الذي يفرض إرادته وحلوله بعيداً عن الأناشيد والشعارات الحماسية؟!
Hanihabib272@hotmail.com