أحيت إسرائيل هذا الأسبوع الذكرى السادسة والعشرين لاغتيال رئيس وزرائها السابق الجنرال إسحاق رابين، واحتدّت التجاذبات بعد امتناع رئيس المعارضة الحالي بنيامين نتنياهو، عن المشاركة في مراسم إحياء الذكرى في مقبرة «كبار الأمة» ما أثار موجة من الانتقادات الحادة، أحيت من جديد التهمة بأن نتنياهو يتحمّل مسؤولية كبرى عن الاغتيال لأنه قاد حملة تحريض على رابين، مهّدت الطريق لإطلاق الرصاصات القاتلة من قبل شاب يميني متطرّف.
ردّ نتنياهو على هذه التهم بأنه يتعرض لعملية اغتيال سياسي، بتحميله هو والمعسكر الذي يمثّله مسؤولية قتل «رئيس حكومة إسرائيل» وبرر غيابه عن المراسم الرسمية لإحياء الذكرى، بأن المراسم تحوّلت إلى منصّة تحريض ضدّه وضد «أكثر من نصف الشعب» وهو يقصد أنّه يحظى بدعم غالبية اليهود في إسرائيل.
في المقابل عبّر ممثلو عائلة رابين عن ارتياحهم من الإطاحة بنتنياهو وسقوط «حكم الفرد الواحد» وبروز لغة سياسية مختلفة عن التي فرضها حكم نتنياهو المتواصل. وشكا يئير لبيد وزير الخارجية ورئيس الوزراء البديل، من أنّ «أحفاد يجئال عمير (قاتل رابين) موجودون في الكنيست» ما أثار زوبعة من الردود الغاضبة في أوساط اليمين الإسرائيلي. على الرغم من ضجيج التلاسن ومن حدّة الاشتباك السياسي في محيط إحياء ذكرى اغتيال رابين، إلا أن هذا ليس الأمر الأهم في تداعيات الاغتيال ذاته، التي ما زالت تفعل مفاعيلها في السياسة، وفي الأجواء السياسية في إسرائيل. ولعل أهم هذه التداعيات، أن الإسرائيليين تعاملوا مع الاغتيال على أنّه جرى على خلفية ما اعتبروه توجّه رابين إلى «سلام مع العرب» ما رسّخ في الوعي واللاوعي السياسي في الدولة العبرية، أن هذا التوجّه يشكل خطرا داهما على السلم الداخلي، ويمزّق لحمة الأمّة والمجتمع، وعليه اتجهت الأولية نحو السلم الداخلي، وجرى التحوّل شبه التلقائي من سلام مع العرب إلى سلام بين اليهود. وظهر هذا الأمر فورا بعد الاغتيال، حيث سارعت قيادة حركة «سلام الآن» إلى عقد اجتماعات المصالحة مع المستوطنين، وقام الشباب من أنصار رابين بإيقاد الشموع في الأماكن العامة، والتباكي على الأطلال في الساحة التي اغتيل فيها. وقد مهّد رد الفعل الضعيف والمائع لليسار الصهيوني الطريق لعودة اليمين برئاسة نتنياهو إلى الحكم عام 1996. وبين مقتل رابين وصعود نتنياهو شهد «أوسلو الإسرائيلي» تراجعا متتابعا ومستمرا، لكنّ القيادات الفلسطينية والعربية فشلت في التخلّص من أوهامها «الأوسلوية» وأصرّت على أنّها «عنزة ولو طارت».
لم يكن سلام أوسلو سلاما، ولا كانت العملية السلمية عمليةً ولا سليمةً، لكن إذا كانت هناك إمكانية لمسار تفاوضي جدّي يؤدّي إلى تسوية ما، فقد مات مع اغتيال رابين، والسبب بسيط لكنه ثقيل الوزن وهو، أن الاغتيال نقل إسرائيل من احتمال السلام مع العرب إلى تفضيل السلام بين اليهود. لقد أصبح الاغتيال وتداعياته السياسية والنفسية عاملا مهمّا ومؤثّرا في اتخاذ القرار السياسي، وألقى ظلّه على النخبة السياسية الإسرائيلية، وعلى كل من تحرّك لفحص إمكانيات التوصّل إلى تسوية ما مع الفلسطينيين، أو حتى مع سوريا، حيث رأينا كيف تراجع إيهود براك، رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، في اللحظة الأخيرة، وكيف «بردت رجليه» كما قال وكتب مقرّبوه. على الرغم من تبجيل إسرائيل الرسمية لرابين، إلّا أنّها لم تلتزم بما وقّع عليه في اتفاق أوسلو، التي لم ينفّذ منها، في النهاية، سوى ما يريح إسرائيل، وما نراه اليوم في الواقع هو أقل مما نصّ عليه هذا الاتفاق. لقد رفضت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة الالتزام بتعهداتها الرسمية، طبقا للاتفاق، لكنّها لم تجد حرجا باشتراط الاعتراف بالحكومة الفلسطينية بالالتزام باتفاقية لا تلتزم بها هي. ولو راجعنا تبريرات إسرائيل لعدم الالتزام، نجد إلى جانب الاعتبارات الأمنية والاستراتيجية الممجوجة، اعتبارا حاسما آخر يتعلّق بتداعيات اغتيال رابين، وهو الريبة من موقف الرأي العام الإسرائيلي، والخوف على سلامة ووحدة الشعب في إسرائيل، الذي يتجه إلى اليمين أكثر، ويرفض تقديم «تنازلات» للفلسطينيين. وفي المحصلة، إذا كان نص اتفاقية أوسلو سيئا ومسيئا وكارثيا، فإن الخلاف في إسرائيل على تطبيقه، والذي أدّى إلى اغتيال رابين سابقا، جعل التنفيذ لاحقا أسوا بكثير من الاتفاق السيئ أصلا. أمّا رابين الشخص، فقد جرى تلميع سيرته ونسب إليه كثير من نوايا سلام، كان بريئا منها، وجرى تجاهل جرائم حرب، كان متورّطا فيها، وحتى في الأوساط الليبرالية في الغرب، يذكر رابين على أنّه «ضحية السلام» ويُمجّد على أنّه «بطل السلام» ولا يرد ذكر ماضيه العسكري إلّا لزيادة مجده «السلمي» مجدا، كمن جرّب الحرب وجنح إلى السلم.
إنّها حرب شرسة، ليس على الأرض فقط وإنما على الوعي أيضا، في الحرب الواقعية على الأرض يبدو ان الفلسطينيين هم الطرف الأضعف، لكن في الحرب الموازية، التي لا تقل أهمية، وهي الحرب على الرواية، فهم الأقوى، لأن رواية الضحية تخاطب الضمير وهي دائما أقرب إلى الصدق، ورواية المجرم تتميّز بالكذب والتضليل والمراوغة. ولا بدّ حين يجري الترويج لرابين على أنه «صانع السلام» أن نذكّر بتاريخه ونفنّد الدعاية الصهيونية، التي أصبح لها صدى عربيا هذه الأيام. يتحمّل رابين مسؤولية المساهمة والمشاركة في جريمة التطهير العرقي في فلسطين، فهو الذي قاد، في شباط/فبراير 1948، احتلال قرية قيساريا الساحلية وطرد سكّانها. وفي تموز/يوليو 1948، قاد عملية تهجير عشرات الآلاف من أهالي مدينتي اللد والرملة، وكان مسؤولا عن المجزرة التي ارتكبت في مسجد دهمش في اللد، وراح ضحيتها حوالي 250 شهيدا. وقد دافع من دافع عنه بالقول إنّه نفّذ الأوامر، لكنّ تراكمت معلومات مؤكّدة في السنوات الأخيرة، أنّه دعا وبادر وعمل على اتخاذ قرار بتهجير أهالي المدينتين ونفّذه بحماس، وكتب أمرا عسكريا مقتضبا «ينبغي بأسرع وقت طرد السكّان من اللد.. التنفيذ فورا. إسحاق رابين». وشارك رابين في احتلال الأحياء العربية في القدس الغربية، وكان من منفّذي التطهير العرقي في هذه الأحياء، كما شارك في المحاولة الفاشلة لاحتلال البلدة القديمة في القدس، وترك هذا الفشل «أثرا في نفسه» كما ادّعى. وكان لرابين دور عسكري مهم في احتلال النقب ومدينة بئر السبع وتهجير الأهالي منهما. ويدل تاريخ حرب 1948 على أنّه حيثما قاد رابين المعارك كان هناك تطهير عرقي. لقد كان له شركاء من أمثال ألون وديان وشارون، وهو وهم لم يكونوا مجرد «براغي» في ماكينة حرب التطهير العرقي، بل كانوا من مخططيها وصنّاعها ومشغّليها.
وأورد توم سيغيف في كتابه عن بن غوريون، أن رابين عارض في الستينيات، حين شغل منصب رئيس الأركان، إقامة الفرن الذري في ديمونا داعيا إلى تخصيص الأموال لبناء القدرات العسكرية للجيش لاحتلال الضفّة الغربية. وفي حرب 67 كان مسؤولا كقائد عام للجيش عن جرائم حرب كبرى مثل التطهير العرقي في الجولان، وطرد حوالي 100 ألف من سكّانه، وكذلك تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى الضفة الشرقية. كما اعتبر رابين احتلال القدس تحديدا «تصحيح خطأ» وكان من المتطرفين جدّا بكل ما يخص ما يسمّى «القدس الموحّدة تحت السيادة الإسرائيلية». وتحت قيادته كرئيس للحكومة الإسرائيلية، قامت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في يوم الأرض 1976 بقتل ستة من المتظاهرين العزّل في سخنين وعرّابة وكفركنا والطيبة في الداخل الفلسطيني. وفي الانتفاضة الأولى كان رابين وزيرا للأمن، وحرّض الجيش على المزيد من العنف وقال جملته المشهورة: «حطّموا عظامهم!» ودافع بشدّة عن القمع الوحشي للمتظاهرين الفلسطينيين، الذي لم يحملوا سلاحا. لم تكن أوسلو بالنسبة لإسحاق رابين سوى استمرار الحرب بوسائل أخرى، فقد كان المبدأ الناظم في حياته السياسية والعسكرية هو «دولة يهودية آمنة».
وقد هدف التطهير العرقي عام 1948 ولاحقا عام 1967، إلى تغيير التوازن الديمغرافي لضمان أغلبية يهودية وبالتالي دولة يهودية. وكانت الغاية العسكرية هي تأكيد التفوّق وتحطيم أي محاولة لتحدّي مشروع الهيمنة الصهيونية، أو ما يسمّى الأمن بالقاموس السياسي الإسرائيلي الأعوج. لقد نظر رابين للتطهير العرقي واتفاقية أوسلو بالمنظار نفسه، وهو إبعاد الكتلة البشرية الفلسطينية عن الدولة اليهودية. في عام 1948، تحقّق ذلك بالتهجير، وفي أوسلو عبر إقامة حكم ذاتي مستقل، وفي كلتا الحالتين فصل عنصري يبعد ملايين الفلسطينيين عن تهديد الأغلبية اليهودية في الدولة الإسرائيلية. أمّا من الناحية الأمنية فقد صرّح أكثر من مرّة بأن السلطة الفلسطينية قادرة على حماية أمنها هي وأمن إسرائيل بطرقها الخاصة «بعيدا عن منظمات حقوق الإنسان وعن المحكمة العليا».
إسحاق رابين أبعد ما يكون عن «رجل السلام» فهو أراد تحقيق الهدف نفسه طيلة الوقت، وهو ضمان «دولة يهودية آمنة» مرّة بالحرب العسكرية المباشرة ومرّة بوسائل أخرى مثل أوسلو. لقد توجه رابين إلى الحرب والسلم بعقلية التطهير العرقي والفصل العنصري نفسها، ولم يخرج عنها بتاتا.