في قراءة موضوعية للتحولات في المشهد الإسرائيلي منذ ما يزيد على العشرين عاما الأخيرة يمكن الجزم، انه لم يعد هو ذاته قبلها، بتعبير علمي وواقعي حدث تغيير في خارطة العلاقات الحزبية، وتم تبادل الأدوار بينها، لجهة تسيد اليمين واليمين المتطرف، وصعود التيارات الحريدية والدينية الاقصوية بما في ذلك قطعان المستوطنين (وانا من انصار الاتجاه الذي يرفض التمييز او الفصل بين المستوطنين وبين المنظومة الحزبية والسياسية في الموالاة والمعارضة الصهيونية، لانهم جميعا شركاء في صناعة القرار، واليات تنفيذه على الأرض الفلسطينية المستعمرة) إلى مركز صناعة القرار في الدولة الإسرائيلية. وكل من اليمين العلماني والمتدينيين معاد للسلام، ولا يقبل أي منهم القسمة على التعايش مع الشعب العربي الفلسطيني.
من المؤكد ان بداية التحول حصل منذ ما يزيد عن أربعة عقود، أي عندما صعد الليكود لسدة الحكم في العام 1977، بيد ان ذلك الصعود على أهميته في خلخلة مركبات المعادلة الحزبية الصهيونية، الا انه بقي في حالة تأرجح، وصعود وهبوط، إلى ان عاد الليكود (حيروت تاريخيا) في 1996 لقيادة الحكومة بقيادة بنيامين نتنياهو، وهو من تمكن في تكريس دور اليمين واليمين المتطرف والحريدي في الخمسة عشر عاما الماضية، وفتح الأبواب على مصاريعها امام انفلات العنصرية والفاشية، ومضاعفة عمليات التطهير العرقي ضد أبناء الشعب العربي الفلسطيني. دون ان يلغي ذلك الدور التاريخي للمنظومة الصهيونية الام وعصاباتها في ترسيخ الإرهاب المنظم كاساس لبقاء وتطور الدولة القاعدة الصهيونية
وهذا لا يعني ان حزب العمل وغيره من القوى والأحزاب المصنفة ب"اليسار" او الوسط، انها تقبل الانخراط في عملية سلام وفق معايير وقرارات الشرعية الدولية ومرجعيات التسوية السياسية، وانما كانوا بعد الانتفاضة الكبرى 1987/1993 يعلنون انهم مع تحقيق تسوية سياسية ماينوس (ناقصة)، أي يرفضون من حيث المبدأ وجود الدولة الفلسطينية المستقلة وذات السيادة وعاصمتها القدس الشرقية، ويرفضون عودة اللاجئين الفلسطينيين على أساس القرار الدولي 194، الذي ربط عودتهم بالاعتراف بوجود إسرائيل نفسها عام 1949. فضلا عن ان ما يسمى باليسار هو الذي وضع المداميك الأولى للمشروع الاستعماري الصهيوني، وبنى إسرائيل تاريخيا، وهو الذي اصل لخيار دولة إسرائيل الكاملة على فلسطين التاريخية.
اردت من ذلك، الإشارة الى ان التحول اليميني والحريدي في إسرائيل ليس وليد الصدفة، وانما جاء نتاج اكثر من عامل، أولا الركائز والاهداف الأساسية للمشروع الكولونيالي الصهيوني كانت ومازالت هي الناظم الأساس لكل الفسيفساء الصهيونية من أقصاها إلى أقصاها؛ ثانيا لا يوجد بالمعنى الدقيق للكلمة يمين ويسار ووسط داخل المنظومة الصهيونية، وانما تباينات سياسية ترتبط بقراءة كل زعيم وحزب في كيفية بلوغ الهدف الصهيوني الكامل؛ ثالثا سهولة وسيولة الانتقال بين المركبات الحزبية من اقصى اليمين إلى اقصى اليسار، او الانشقاق عن الأحزاب الام دون الشعور عند أي منهم بالحرج، او الشعور بالنقص، انما يعتبرون ذلك امرا طبيعيا ومشروعا. لا سيما وانهم لم يخرجوا عن الحاضنة الام، والاهداف المركزية للحركة الصهيونية؛ رابعا شكل مبدأ المناورة والتقدم والتراجع في منحى صعود الصهيونية احد الركائز الأساسية للقوى الصهيونية المختلفة في تعاطيها جميعها مع التغييرات السياسية وموازين القوى في مختلف محطات الصراع؛ خامسا كان للتحولات الاقتصادية الاجتماعية في الدول الرأسمالية، وما تلازم وترافق معها في المجتمع الإسرائيلي، وانتقال الامبريالية إلى مرحلة النيو ليبرالية والعولمة المتوحشة، والتخلي كليا عن دور الدولة في ضبط إيقاع السوق، والاندفاع إلى مستنقع خصخصة السوق ساهم مساهمة مباشرة في صعود التيارات اليمينية المتطرفة، والتي رافقها التيارات الدينية المتشددة والاقصوية؛ سادسا رفض الغالبية العظمى من النخب السياسية الصهيونية أي حل سياسي بما فيها خيار حل الدولتين على حدود 1967، وخيار الدولتين على حدود قرار التقسيم الدولي 181 الصادر في نوفمبر 1947، وخيار الدولة الواحدة، وحتى خيار الحكم الاداري الذاتي ذات الصلاحيات الواسعة مرفوض، لانه يحمل في طياته تبلور بناء الدولة الفلسطينية المستقلة، وايضا مشروع السلطة الفلسطينية القائم بكل نواقصه، وارباكاته لا يريدون له البقاء. وبالتالي ما يمكن ان يقبلوا به، هو خيار الدولة في غزة فقط، او عودة كل من الضفة للاردن، وغزة لمصر، وحل قضية اللاجئين في سيناء، والتوطين في الدول العربية والمهاجر الأوروبية. غير ذلك يبقى مجرد ثرثرات ولغو سياسي غير ذات شأن بالحل على الأرض؛ سادسا كان للتحولات الاقتصادية الاجتماعية في الدول الرأسمالية، وما تلازم وترافق معها في المجتمع الإسرائيلي، وانتقال الامبريالية إلى مرحلة النيو ليبرالية المتوحشة، والانتقال إلى خصخصة السوق ساهم مساهمة مباشرة في صعود التيارات
النتيجة العلمية لقراءة المشهد الإسرائيلي والتحولات الجارية فيه، تشير إلى انه لم يتغير ولا مليمتر واحد، ولا بند ثانوي صغير من أي نقطة في المشروع الصهيوني الام، وبقي الناظم الأساس لكل القوى والأحزاب بمختلف مسمياتها. وبالتالي ونحن نراقب ونحلل التطورات في المشهد الإسرائيلي نسقط غالبا في التفاصيل، ويسقط من بين أيدينا النواظم الأساسية للقوى والأحزاب والمشروع الصهيوني الام، مما يغرقنا في متاهة الحسابات الصغيرة. وهذا في مطلق الأحوال لا يعني انه لا يوجد تباينات او فروقات بين القوى والأحزاب الصهيونية، العكس صحيح، ولكنها محدودة لم ترق لمستوى التناقض التناحري فيما بينهم. بيد انهم في حال تعاظم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وتغيرت موازين القوى، قد تنتقل قوى صهيونية إلى خيار السلام الممكن والمقبول ووفق قرارات الشرعية الدولية. بالإضافة الى ان صعود التيارات الحريدية والدينية المتشددة والمتزمتة قد تدفع الأمور نحو تناقضات غير محمودة.