30 عاماً من «السلام» الأميركي..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

بقلم: حسن خضر

مع كتاب مارتن إنديك، الذي تناولنا جانباً منه في مقالة الأسبوع الماضي، يشهد "شاهد من أهلها" بأن كيسنجر لم يكن معنياً "بالسلام" بل بإنجاز "تسوية"، وبأن على التسوية أن تكون جزءاً من مشروع لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، وبأن هذا كله يجب أن يصب في مصلحة إسرائيل.
وأعتقد أن النظام، الذي شكّله كيسنجر، قد عمّر قرابة ثلاثين عاماً، منذ توقيع معاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية، وحتى ثورات الربيع العربي. لم تجر الرياح، خلال الفترة المذكورة، بما اشتهت السفن الأميركية في كل الحالات، وكان ثمة مفاجآت غير متوقعة أدت إلى تعديلات استراتيجية بعيدة المدى، على رأسها الثورة الإيرانية (بطبيعة الحال)، وفي حالات بعينها، كما حدث بعد الاحتلال الصدّامي للكويت، كان على الإمبراطورية القتال على الأرض، وبجنودها، للحيلولة دون انهيار النظام الإقليمي.
لا يتسع المجال، هنا، للكلام عن وقائع كثيرة، وما انطوت عليه من دلالات استراتيجية، ومتى بدأ النظام الإقليمي في التآكل، وكيف ولماذا فقد الأميركيون غواية وإرادة ومصلحة الشرطي، والمهندس، في الشرق الأوسط (لأسباب موضوعية اقتصادية وعسكرية، وبعد مغامرات عبثية ومُكلفة). فهذا ما لا نكف عن تناوله من وقت إلى آخر.
فما يعنيني، اليوم، يتمثل في لفت الأنظار إلى حقيقة أن العقود الثلاثة التي شهدت إعادة تشكيل النظام الإقليمي، بما يخدم مصلحة وتفوّق إسرائيل، وما لا يحقق السلام، قد انتهت بانهيار المراكز الحضرية والحضارية للعالم العربي.
وبقدر ما أرى، فلن تكون خلاصة كهذه مفهومة بالقدر الكافي دون العودة إلى أجواء عالم النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، وأوائل ثمانينياته، لتقصي الأفكار والتصوّرات التي كانت لها اليد الطولى في عملية التشكيل.
ثمة الكثير من المصادر، في هذا الصدد، وأعتقد أن أهمها غير معروف ومُتداول، ناهيك عن حقيقة أن فقدان الذاكرة (ينبغي أن نكون كلنا أولاد اليوم) من أولويات الهوامش الصحراوية، وأن الحواضر، في ظل انهيار التعليم، وانتصار الثورة المضادة في كل شيء، وعلى كل شيء، تعاني من فقدان الذاكرة، فعلاً. لذا، أضع في سياق كهذا، ودون أن يرف لي جفن (كما تقول العرب) تقريراً للجنة الثلاثية Trilateral Commission صدر في العام 1981، على رأس القائمة.
وتجدر الإشارة، هنا، إلى أن الأساطير التي أحاطت ولا تزال باللجنة المذكورة تضفي عليها صفات خارقة، وتكاد تكون شيطانية أحياناً، بوصفها حكومة العالم الخفية. وهذا ينطوي على قدر كبير من المبالغة، فهي خلية تفكير أنشأها ديفيد روكفلر (تكلّم عنه السادات بفخر وسعادة كصديق، إضافة إلى صديقه هنري، طبعاً) وبريجنسكي (مستشار كارتر للأمن القومي) في العام 1973، وضمت في حينها ممثلي المراكز الكبرى للرأسمالية (أميركا، أوروبا الغربية، اليابان).
صدر التقرير بعنوان "الشرق الأوسط وبلدان اللجنة الثلاثية"، وتضمّن تحليلاً لواقع هذا الجزء من العالم، وأهميته، إضافة إلى توصيات، وتوّجهات، يجب أن تُؤخذ في الحسبان.
وما يعنيني منها، في هذه المعالجة، يتمثل في ثلاث توصيات. فاللجنة توصي: بإيلاء اهتمام أكبر لمسألة الدين في الشرق الأوسط، والتوصل إلى حل للصراع الفلسطيني والعربي ـ الإسرائيلي، وإيلاء اهتمام خاص لممالك النفط في الخليج (الفارسي، كما يقول التقرير).
وقد نجمت، بقدر ما أرى، عن التوصيات المذكورة، تداعيات بعيدة المدى، وما زالت آثارها ملموسة حتى الآن. وتستحيل، على الأرجح، قراءة تاريخ الشرق الأوسط، على مدار العقود الماضية، وما وقع فيه وله، دون ملاحظة حضورها الفاعل في إعادة التشكيل الكيسنجرية، التي أدت، كما قلنا، إلى انهيار المراكز الحضرية والحضارية للعالم العربي.
في التوصية بإيلاء الدين أهمية خاصة ما يضفي على عملية "الأسلمة"، التي شهدها العالم العربي، بعداً دولياً، ويجعل منها جزءاً من إعادة تشكيل النظام الإقليمي، بما يخدم المصلحة الإسرائيلية.
وفي التوصية بحل المسألة الفلسطينية ما يشير إلى لحظة ميلاد "عملية السلام"، أي وجود مسار يمثل وعداً بالسلام دون تحقيقه.
وفي الاهتمام على نحو خاص بوضع ممالك النفط، في الخليج، ما يؤرّخ، فكرياً، لميلاد "دبي" بوصفها عائقاً أمام التمدد الإيراني، بعد الثورة، والمجاز السياسي والاقتصادي (والثقافي) البديل للحواضر الشامية والمصرية والعراقية.
وما تجدر ملاحظته، في هذا الصدد، أنني لا أسرد ما تقدّم للإيحاء بوجود مؤامرة. فالناس، كما يقول طيّب الذكر ماركس: "لا يصنعون تاريخهم على هواهم، بل انطلاقاً من ظروف يُواجهون بها".
وبهذا المعنى، الإمبراطورية الأميركية، وحلفاؤها في المنطقة، وكذلك مراكز الرأسمالية العالمية "ناس" أيضاً.
وقد خلقت لهم الثورة الإيرانية، و"ثورة" جهيمان وجماعته في الحرم المكي، وكذلك اجتياح السوفيات لأفغانستان، وما تلاه من "جهاد"، والحرب العراقية ـ الإيرانية، وعوائد ثروة النفط الخرافية، بعد حرب أكتوبر، والحرب الأهلية اللبنانية، ظروفاً ينبغي عليهم مواجهتها (وكلها أحداث تنتمي إلى النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، وأوائل ثمانينياته)، وفي سياق تلك المواجهة "صنعوا" تاريخهم وتاريخنا.
ومع ذلك، الترفّع عن الوقوع في شرك نظريات المؤامرة، وقراءة الواقع بعقلانية باردة، لا يعني الحياد السياسي، ولا النسبية الأخلاقية، فنحن (شعوب المراكز الحضرية والحضارية في بلاد الشام، ووادي النيل، وبلاد ما بين الرافدين) كنّا على الجانب الصحيح للمتراس، ولا ينبغي في كل الأحوال الاكتفاء بإلقاء مسؤولية ما أصابنا على عاتق أنظمة الطغاة في بلادنا وحسب، بل وعلى عاتق الإمبراطورية وشركائها، أيضاً. ولا أجد، في التعقيب على فقدان الذاكرة، أشد بلاغة من قول العراقي مظفّر النواب: "وأوجع من قاتل يمسح المدية، أن القتيل يموت نفاقاً".